قال المصطفى: "ما دخلت هذه (الفلاحة) دار قوم إلا دخله الذل"، أو كما قال. وقال أيضا: ""أفضل الكسب الزراعة، فإنها صنعة أبيكم آدم" أو كما قال؛ فهل كان المصطفى يشجع الناس على الزراعة في أحاديثه أم كان يثنيهم عنها؟
يقول د. علي الوردي في كتابه "نظرية المعرفة عند ابن خلدون، دراسة تحليلية"، ترجمة د. أنيس عبد الخالق محمود، ص(302): "ويعتقد "أهل الحديث" المسلمون إن محمدا كان مندفعا في التشجيع على الزراعة والحرف اليدوية. وهناك العديد من "الأحاديث" المنسوبة إليه عن هذا الموضوع. إلا إن هناك "حديثا" واحدا لعله ينتقد الزراعة ويعدها سببا للذل. ويشير طه حسين إلى إن "أهل الحديث" حاروا في المعنى الحقيقي لهذا "الحديث" المناوئ للزراعة، ويعتقدون إن لا بد أن يكون فيه خطأ ما. والظاهر إنهم لم يدركوا إن محمدا لم يتحرر بالكامل من قيم البداوة، وحاولوا أن يفرضوا قيمهم عليه".
إني أكاد أجزم إن الوردي قد وقع هنا في نفس الفخ الذي وقع فيه الكثيرون من المفكرين والمؤرخين والمستشرقين وغيرهم ممن أمعنوا النظر في المسائل الخلافية الجدلية إمعانا شديدا فاتخذوا منها مواقف على شاكلة "إما أبيض أو أسود".
فالوردي يبرر تبغيض المصطفى للناس بالزراعة إستنادا إلى إن المصطفى لم يتحرربعد من قيم البداوة، مما يعني إن الوردي سيبرر فيما بعد تحبيب المصطفى للناس بالزراعة بإنه تحرر تماما من قيم البداوة، وهذا تحليل غير دقيق في أغلب ظني.
من جهة أخرى، لعلني لا أغالي إذا ما خالفت "أهل الحديث" المشار إليهم من قبل طه حسبن في إعتقادهم بوجود خطأ ما في الحديث الذي يرى فيه المصطفى الذل عاقبة للزراعة، لأن أغلب الظن عندي إن المصطفى لم يكن يقصد من أحاديثه المتعارضة في ظاهرها عن الزراعة أن يشجع عليها أو أن يثني عنها، بل قصد منها أن يضع الزراعة بمساوئها ومحاسنها في الميزان؛ فأشار تارة إلى محاسنها، وأشار طورا إلى مساوئها، وللإنسان أن يأخذ الجانب الذي يراه مناسبا لزمانه، وتلك لعمري شذرة من شذرات عبقرية المصطفى.
ويبدو إن "أهل الحديث" الذين أشار إليهم عميد الأدب العربي طه حسين لا ينظرون إلى أحاديث المصطفى إلا بمنظار قانون الوسط المرفوع الذي ينص على ما يلي: "ليس هناك وسط بين النقيضين"، بمعنى إن "الشيء" إما جميل أو قبيح، وإما حسن أو سيء، وإما خير أو شر، وهذا قانون أرسطي يصلح للإستخدام في حقول معينة، ولا يصلح للقياس عليه في مجالات محددة، ومنها أحاديث المصطفى عن الزراعة.
الوردي نفسه من أشد المعارضين لقانون الوسط المرفوع؛ فقد انتقد الوردي هذا القانون إنتقادا لاذعا شديدا في الكتاب عينه المذكور أعلاه، إذ يقول في ص(212-213):
"وفي ضوء العلوم الطبيعية والإجتماعية الحديثة يعتقد إن هذا النمط من التفكير الثنائي القيمة، أو الثنائي التكافؤ، لم يعد صالحا؛ فقد تغيرت الأمور الآن وفقا لسلسلة متصلة وليس وفقا لثنائيات من قطبين فقط. وبالفعل، هناك عدد لا محدود من الدرجات التي تتداخل بين قطبي الثنائية الطبقية. إن المنطق متعدد التكافؤ هو النمط المقبول للتفكير، وليس المنطق ثنائي التكافؤ في العصر الحديث".
وبالرغم من انتقاد الوردي لقانون الوسط المرفوع، لعلني لا أجانب الصواب إذا ما قلت إن الوردي نفسه من أشد المتعصبين لقانون الوسط المرفوع من حيث لا يدري! إذ تجده يطلق حكما مطلقا في النص أعلاه إن المنطق ثنائي التكافؤ ليس هو النمط المقبول للتفكير في العصر الحديث، وهذا هو التطبيق الحرفي لقانون الوسط المرفوع!
وعلى ما يبدو إن الوردي شأنه شأن"أهل الحديث" المقصود بهم في إشارة طه حسين غفل عن أن يطبق منطق النسبية على الزراعة في أحاديث المصطفى. وأعني بمنطق النسبية منطق التفكير متعدد التكافؤ الذي استخدمه الوردي في النص السالف الذكر بحسب مترجم الكتاب.
ولربما لا أخطئ التفكير في إطار منطق النسبية إذا ما قلت إن الزراعة من منظار المصطفى ليست إما شرا أو خيرا إذا جاز التعبير، بل هي في منطاره خير وشر في نفس الوقت.
ورب سائل يتساءل: كيف للزراعة أن تكون خيرا وشرا في آن واحد؟
إنه سؤال وجيه، وجوابي عليه إن الزراعة في الأنظمة الإقطاعية تجلب الذل على العمال الأجراء فهي شر بالنسبة لهم، وتجلب العز على الإقطاعي فهي خير بالنسبة له.
ولا مندوحة لي عن القول هنا إن إجتهادي أعلاه في التوفيق بين أحاديث المصطفى التي قد تبدو متعارضة في أمر الزراعة ليس بالضرورة أن يكون صائبا كما إنه ليس بالضرورة أن يكون خاطئا، وما أدرانا؟