منذ بداية التاريخ والأمم والشعوب ، تخوض الحروب والمعارك فيما بينها ، فدولة تحتلُّ دولة أخرى ، وأمّةٌ تتوسّع على حساب أممٍ غيرها ، خُذ على سبيل المثال ، حروب العرب والمسلمون ضدَّ غيرهم ، وأيضا الاستعمار الغربي للمشرق العربي وشمال أفريقيا ، لكن تبقى جميع تلك الحروب " تقليدية " بمعنى وجود المُنتصر والمهزوم فيها ، وحتى المهزوم فيها ، يستطيع الحفاظ على " بقائه " وعلى " عافيته " والعودة لردِّ الهزيمة لخصمه ، لكن ثمّة حروب ليس فيها أيّ نصر لجميع الأطراف ، وهي الحروب التي تكون بين أبناء الوطن الواحد ، وأتباع الدين الواحد ، والقومية الواحدة أيضا ، فالجميع في تلك الحروب ، مهزوم .
وُجدت القَبَلية العربية منذ آلاف السنين ، وهي التي حكمت مجتمعاتنا في قديم الزمان ، والعِرق النابض للقبيلة هو انتماؤها لأرضها والرغبة في توسيعها ، فتغدو مجموعة من القبائل مُتلاحمةً فيما بينها تحارب قبائل أخرى رغبةً في الحصول على خيراتٍ أكثر ونفوذٍ أشمل من خلال زيادة رُقعتها الجغرافية ، ومن أجل أهداف سياسية أيضا ، وبقي هذا الحال لآلاف السنين، إلى أن جاء الإسلام ، فوحّد فيما بينهم ، فأزال بذلك " تقريبا " أول مظهر من مظاهر الطائفية وهي " التعصّب " ، فبقدوم " الدين المُوَحِّد " قلَّت أهمية التعصّب للأرض وأهمية الانتماء لها إذا ما قورنَت بأهمية الانتماء للدّين .
إنَّ ظهور فكرة " الدّين المُوَحِّد " - أيُّ دين - كان " يُفترَض " أن تكون حلّاً "لصراع" الكراهية عند البشر عن طريق " توحيدهم " تحت رايةٍ واحدة ، لكن أدى اختلاف " فهم " هذا الدّين واختلاف تطبيقه إلى بروز ظاهرة " الفَرز والصراع " فأصبح تحت ظلِّ الدّين الواحد ، الكثير من الطوائف والمذاهب ، ففي الإسلام ظهرت طوائف عدّة أشهرها السنّة والشيعة والدُرزية ، وفي المسيحية ظهر الأرثادوكس والبروتستانت .
في العصر الحديث ، نشهد سجالاً كبيرا في أوساط التابعين لطائفة أو مذهب معيّن ، وفي مجتمعنا العربي كانت تلك شرارة " الحروب " والتمييز فيما بينا ، فأتباع طائفة واحدة يَرَون أنفسهم أنّهم الأصحّ بين تلك الطوائف ، ففي جميع الدول العربية ، هناك نزاعٌ " مشتعلٌ أو خامد " بين تلك الطوائف ، فما حصل في سوريّا واليمن مثلاً ، من حروب بين أتباع الطوائف المختلفة ، أدت إلى إنهاك " جسد " الدولة وتمزيق الرابط الاجتماعي بين الناس ، وجعل تلك البلاد ، بمثابة " مهرجان " يستعرض فيه الأجنبي قوتّه العسكرية .
الدّين وطوائفه ليست الدافع الوحيد لصراع " الذات " فيما بيننا ، فعندما ندقق أكثر ، نجدُ حروبا " قومية " قامت لأسباب سياسية واقتصادية وعسكرية ، كغزوِّ العراق للكويت عام ١٩٩٠ ، لكن ما نراه اليوم يعكس آثار حرب " الذات " بين الدول التي تنتمي لنفس القومية ، وما ينتج عنها من كراهية وحِقد تجاه بعضنا ، تفتح الباب لطرفٍ ثانٍ ليكون حَكَماً يبحث عن مصلحته بين أراضينا ، ليكون الجميع مهزوم فيها .
مع نهاية الاستعمار العسكري الغربي للعربي بدأ الغزو الثقافي يؤخذ شكل استعمار جديدا ، ومن تحت عباءته خرجت حروب " بلا ذخائر عسكرية " ، حروب " ناعمة " تعتمد على صراع " الأفكار " ، والتي تنتهي عادةً بالفُرقة وتقسيم فئات الوطن الواحد إلى فئات عديدة ، كغيرها من حروب " الذات " ، تنتهي " بخسارة " الجميع .
الحرب مع الذات أخطر من أي حرب ، لأنّها لا تحمل بين أحداثها إِلَّا الخراب والدمار ، فإذا تمكّن المُستعمر فعلاً من القيام " بسايكس بيكو فِكرية" ، جعلت " مصارين البطن تتعارك " ، أو إذا كانت الطائفية مُجرّد " حُجّة " للوصول إلى أهداف سياسية واقتصادية ، أو مهما يَكُن السبب ، الجميع في حربنا مع ذاتنا مهزوم .