هذا الوطن لا تثنيه الأزمات، إنها سلالة السياسة وجينات الزعامة التي تتأصل بين جنبات الأردنيين.
هذا الوطن محكوم بالتضحيات وبالشهداء. ليس ذلك فقط، إنه محكوم كذلك بتاريخ مجيد، حيث كان الأوائل من أجداد الأردنيين يقدّمون الكفاح على الخبز، والهتاف على الوظيفة.
في قاعات الدرس وفي الميادين وفي الساحات، على امتداد شبابهم وكهولتهم، كانوا كأجمل ما يكون الثوّار. يستهلون الدرس بنشيد القومية لطلبةٍ لا يتَسَنَّمُ تفكيرهم غَيْر قضايا الأمة والكفاح ضد الجهل والاستعمار، والحفاظ على موروثهم الكبير، في السلط وفي الكرك، حيث كانت تنتصب المدارس منارات قومية، حيث خرج الكبار قادةً ومؤسسين، حيث كانت دمشق والقاهرة وبغداد، مربط خيلهم، ومبتغى تعليمهم، وحيث كانت الجفر والمحطة قامات موازية للمدارس والجامعات، تخرّج أيضا قادة وروّاد.
في كل الملمّات، ظل هذا البلد وسطيا معتدلا محافظا على معاييره الإنسانية ومعتقداته القومية وأصوله العربية في وقتٍ لم تُسعف فيه الصراعات دولا عديدة ليتهاوى تاريخها الكبير أمام شؤون داخلية جدلية.
اليوم، يُنازل هذا الوطن خصوماً على جبهات عديدة. نضال في وجه خطة عقيمة للسلام. صوت عالٍ لإحباط ما يعتقده العالم يسيرا.
في كل حدث وكلما لاحت الفرصة، في كل مكان حيث يسمع العالم كلّه جيداً؛ تهتف الحناجر وتكتب الأقلام، أن أهل الحل والعقد في قضية القدس وفلسطين، وجع الأمة وجرحها وثأرها، هم أهلها وأوصياؤها، وقد حملوا واجبهم الشريف في حمايتها والذود عنها، وأنه لا يمكن لأحد أن يقفز فوق التاريخ، وبالطبع لا يمكن مقايضة المجد بالدولارات.
وهكذا يمضي هذا الوطن ماجد الأصل، مسنوداً بإرث أهله الخالد، بشرف الكفاح وبركة الشهادة، تلك الفضائل التي تنبع من عراقة الفكرة والمبدأ والعقيدة.
وسيبقى، محمّلا بالمتاعب، وسيبقى أهله يفتلون الشوارب، ويصنعون الكواكب. هذا ما قاله درويش، لكن الكناية هنا تناسب الحديث عن وطن بحجم الأردن.
يتغيّر العالم بتسارع مقلق. تتغيّر المواقف القديمة بتغيّر مصالح الأمم. قادة العالم اليوم هم في السرٍ غير ما هم في العلن. إنهم اكثر حزماً وحدةً وأنانية، ويلبّون حاجات شعوبهم حتى لو كانت خارج إطار مصالحهم. وكذا ما عاد للمبادىء التي سمعناها من ساسة العالم حضورا. هذا شأن حرصهم على بلادهم.
نحن اليوم أقرب للإقليمية منّا للقومية. وحين تخرج من هذا الوطن إِجْتَهَادات التضميد، ودأب الوحدة والعزف على أوتار النهضة، فذاك لأن في تاريخنا ما يعزز هذه الخطوات. لكن علينا ان نعترف بأن الصداقات والأخوة باتت على المحك، وان عالمنا قد تغيّر كله، وبات الناس، أنظمة وشعوبا تترصد بعضها وتمنح منافعها درجة اهتمام قبل كل شيء.