نفهم هذا التعاطف من قبل مجموعة من النواب وبعض الناشطين بمطالبتهم بمنع حبس المدين المعسر ، وهنا نقصد بالمدين المعسر ، أي المدين الذي وجد نفسه مدين بسبب الحالة الاقتصادية المتردية بالبلد ، وهنا نجد بأن الغالبية العظمى من المدينين المعسرين تنحصر بفئة التجّار ورجال الأعمال في القطاع الخاص . ولمثل هؤلاء نقول بأنه قد تم تشريع "قانون رقم (21) لسنة 2018- قانون الاعسار" هذا القانون الذي منح هذه الفئة من المدينين الفرصة لإعادة ترتيب أمورهم دون حبسهم ، وقد راعى هذا القانون التمييز ما بين الاعسار الحقيقي وبين من يدّعون الاعسار بغرض الهروب من تسديد ديونهم .
نأتي الآن لديون البنوك على الأفراد ، والدّيون ما بين الأفراد .
فديون البنوك على الأفراد لا خوف عليها ، فالبنوك تأخذ احتياطات كثيرة قبل منح قرض لفرد ، ومنها رهن العقارت أو بضمان تحويل راتب الفرد المدين للبنك المقرض وكذلك اشتراط وجود كفيل أو أكثر .
أما ديون الأفراد فيما بينهم ، فتلك هي الحالة الأعقد ، فالدائن هنا وفي حال تعذّر أو تعنت المدين عن الوفاء بدينه، فلا مجال أمامه سوى التوجه للقضاء ،وهنا تكمن الطامة الكبرى ، فالقضاء في بلدنا لا شك بأنه عادل ، ولكنه مشوب بطول مدة التقاضي التي قد تصل في بعض القضايا لعدة سنوات وبمعدل ما بين ثلاثة إلى أربع سنوات لإصدار قرار حكم قطعي، وهذا ما يفاقم الأضرار بحق كل من الدائن والمدين ، علماً بأن المدين من أصحاب النوايا السيئة والمبيتة يعمل بالعادة على تأخير إصدار الحكم القطعي من خلال ما يمنحه القانون من حق بتأجيل الجلسات والمرواغة
والمماطلة باستلام الإنذارات العدلية والغياب عن جلسات المحاكم البدائية التي تضطر لإصدار أحكام غيابية يستثمرها المدين بغرض الاستئناف والطعن بقرار الحكم الغيابي من أجل المماطلة فقط . وفي نهاية المطاف يصدر قرار الحكم القطعي ، لتبدأ بعدها مرحلة التنفيذ وما تحتاجه من رسوم ومدد قانونية قبل أن يتخذ قاضي التنفيذ قراره بالحكم على المدين بالحبس بعد منحه المدة القانونية ليبادر بالتسديد أو لعمل تسوية وفق المادة 22 من قانون التنفيذ ، وهذا ما ينتظره بعض المدينين ليقوموا بتسديد ربع قيمة الدين وتقسيط باقي المبلغ على شكل دفعات شهرية غير محدودة المدة والتي قد تطول لعشرات السنوات للوفاء بكامل الدين .
وهنا نسأل ،وفي حال عدم قيام المدين من أصحاب النوايا السيئة والمبيته بالالتزام بسداد دينه وفق قرار قاضي التنفيذ ،وبعد كل مراوغاته ومرمرته للدائن ، فهل يستحق هذا المدين أن نتعاطف معه ونمنع حبسه . إن هذا ما يدعونا هنا للتمييز ما بين المدين الفرد المعسر فعلاً وبين المدين صاحب النية السيئة والمبيتة بعدم الوفاء بدينه بحيث يبقى هذا المدين عرضة للحبس إلى أن يسدد كامل ديونه .
نقول للسادة النواب المتحمسين لتعديل قانون التنفيذ بعدم حبس المدين ، نقول على هؤلاء النواب أن يقوموا بتعديل قوانين أخرى بالتزامن مع تعديلهم هذا ، وعلى رأسها القوانين المتعلقة بالمالكين والمستأجرين بحيث يتم البت بهذه القضايا خلال أسابيع معدودة كما هو حاصل بمعظم دول العالم ، وأن لا تبقى تلف وتدور في ردهات المحاكم لسنوات وسنوات دون أي داعي لذلك ، فالحسم السريع لمثل هذه القضايا يقلل من حجم الأضرار لكل من المالك والمستأجر ، فطول مدة الحسم سيزيد من قيمة الإيجارات المتراكمة والغرامات القانونية والتي تزداد شهراً بعد شهر .
وأخيراً نقول بأن منع حبس المدين وفي حال لم يكن هناك تشريعات حازمة تضمن حق الدائن ، فإن ذلك سيمنع الناس من التوجه للقضاء لتحصيل ديونهم ، ولماذا يتوجهون ويدفعون رسوم وأتعاب محامين طالما أن قرار المحاكم سيكون له معنى واحد وهو " العوض بسلامتكم "
كما أن منع حبس المدين سيؤثر بشكل سلبي على عجلة الاقتصاد القائم أساساً في بلدنا على القروض والتسهيلات البنكية ، وكذلك سيؤثر على التعامل ما بين تجار الجملة وتجار المفرّق ،كما سيترك أثره على قطاع العقار من حيث البيع بالتقسيط دون وساطة البنوك وكذلك سيعطل قطاع تأجير العقارات، فلن نجد صاحب عقار يقوم بتأجير عقاره طالما ليس هناك قانون يضمن له حقوقه في حال امتنع المستأجر عن الوفاء بما ورد بعقد الإيجار.
بالمختصر، منع حبس المدين سيفاقم من أزمات اقتصادنا المتهالك أساساً ، وسيحدث ازمات اجتماعية وأمنية ناجمة عن عدم رضى الدائن بتمّيع حقوقه وتبديدها ، وهذا ما سيدفعه لتحصيل ديونه باللجوء للتهديد والبلطجة والذي سيعرضه للملاحقة القانونية بقضايا جزائية هذه المرة ، وبذلك يصبح الدائن هو المعرض للحبس عوضاً عن المدين .