لنبتعد قليلا عن السّياسة, عن المحاضرات والتّنظير وحفر الحفر وسنّ الضّرائب (من وضع بين الأسنان) أو من سنّ السّكين. لنبتعد قليلا عن الهمّ الغمّ حرق الأعصاب والاكتئاب لما جرى وبما يجري وما سيجري لنا و من حولنا, (مِلِحقين!). لنعرض فاصلا (ليس أعلانيّا وبذمّتنا...لا تهربوا!) فاصلا من ذكريات سعيدة و.. سنعود! لاجترار همومنا كما تعودّنا.
تُمسك بيدها/ بيده الصغيرة، أصابيع البّوبو، تقوده برفق, هو يتمنّع. يحاول أن يلصق قدميّ اللّعبة منه في حَجر الحوش, حوش الحارة. هو/هي, لا يعرف إلى أين تأخذه أمّه. تعوّد على حضنها، على سريره الطّفولي على ألعاب بسيطة بساطة ذلك العصر, تعوّد وأنس واستأنس بطاقم أخوته في مرتعه. لماذا تخرجيني يا أمّي من جنّتي من ملعبي من قصص الشاطر حسن وأهازيج الطّفولة يعبأ شذاها ريحا طيبا من بين شفتيك لتسري في عروقي تدفع العظام للاستطالة وتدفع العقل للتكوّر والنّمو, لماذا يا أمّي وإلى أين!؟.
هي.. الأمّ, تقوده بتردّد لكن بإصرار بإشفاق ورحمة. دموعها تقطر من داخل عينيها لداخل عينيها تختزنها لما بعد الوداع حتّى لا تضعف أمامه فيتمسّك بموقفه الرافض للمجهول أكثر وتفسد مخطّطها. هي تشعر بشعوره فقد مارسوا عليها ذات اللّعبة يوما. سرّحت شعره/جدّلت شعرها بجديلة كذبا القطّة، قطّتها. ألبسته مريولا أزرق أخضر بلون الزهر والفلّ والياسمين...لا يهمّ. وضعت شطيرة من خبز من قمح البلدي مطحنة الشيخ محمود، مدّدت بلطف بين فرشتها واللّحاف قطعة من جبن غطّتها بلطف بحنيّة بمحبّة وأودعتها (سفرطاس) طاس السّفر, (وعاء من معدن من طبقات يوضع به الأكل السّفري) عنب من دالية البيت وموزه...ريحاوي.
دخلت الحضانة, كان (البوبّيون) التلاميذ الصّغار الغلابا, يتشبّثون يتعلّقن بأيدي أمّهاتهن/أمهاتهم, بتلابيب فساتينهنّ يجهشون بالبكاء, يخفقون ترتجف شفاههم. هم يرون وجوها غريبة, يشعرون أنّ شيئا ما كبيرا خطيرا جذريا سيطرأ على حياتهم, كأنّها لحظة الوداع الأخير. شعر صاحبنا الصغير بأنّ أمرا جللا يحدث. أجهش بالبكاء وقد رأى الأطفال يبكون فزاد بكاؤهم على بكائه. تترفّق الأمّ بطفلتها بطفلها, توشوشه تحضنه تشجّعه وتعشّمه بالألعاب الجديدة بالمراجيح بالبنّوتة الجميلة أم ضفائر هناك, بالطفل يلعب بقطع خشبيّة وقد جفّ دمعه ومسح سوائل أنفه بكمّه بعد أن غادرت أمّه الغرفة لكن, لتختفي تراقب من خلف درفة الباب وبدون أن يدري. استسلمت طفولته وببراءة للجديد, بعد أن بكى وتشبّث بفستان أمّه أو بنطال أبيه و.. لا سبيل.
دخل الأطفال إلى.. صفّ البستان. من أطلق عليه هذه التّسمية كان انسانا عظيما. فمن البستان تبدأ الحياة من الأرض والزّرع والتأهيل ثمّ السقاية والنّبت والتّقليم والتّهذيب والقيام, إلى ولادة الثّمر والعطاء, كلّه يبدأ من صفّ البستان.
ما أحوجنا!! عديد كثيرون منّا رجالا ونساء شبابا وفتيانا صبيان وبنات خاصة.. نحن الكبار الجهابذة في كلّ شيء!؟, أن يعيدونا إلى صفّ البستان, بستان.. زمان، بستان البراءة الأخلاق الحميدة الواقعيّة.. حب الغير وحبّ الوطن الكبير والصغير، لنعيد ترتيبنا تأهيلنا.. من جديد.
الراي