"إن تعليم الناس ينبغي أن يكون بهدف تحريرهم، وبما يتوافق مع احتياجاتهم وتطلعاتهم" هذه هي خلاصة فكر فيلسوف التربية البرازيلي، باولو فيريري (1921-1997)، صاحب إحدى أشهر الأطروحات النقدية للعملية التعليمية في عالمنا المعاصر. خلاصة فكره هذه وضعها في كتابه " تعليم المقهورين" والذي تم نشره عام 1967.
التعليم في نظر فيريري هو أداة لممارسة الحريّة! وهو الوسيلة التي من خلالها يتمكن الرجال والنساء من التعامل بشكل انتقادي Critical وخلاّق Creative مع الواقع، ويكتشفون كيف يمكنهم المساهمة في تحرير مجتمعهم من مشكلاته الاجتماعية.
رؤية "فيريري" النقدية هذه لم تكن متعلقة بمجتمعه وبلده البرازيل فقط، وإنما جعلت منه متحدثاً باسم ما كان يطلق عليه العالم الثالث، حيث قدّم تحليلاً لعملية القهرOppression وسماها ثقافة القهر أو ثقافة الصمت التي تعاني منها شعوب العالم الثالث، والقهر عنده هو منظومة القوالب الجاهزة من القواعد والقوانين والمقولات والمُسلّمات، التي تضغط على عقول الناس، وتجعلهم يعتقدون بأنّ الظلم الاجتماعي والفقر حقيقتان طبيعيتان لا يمكن تجنبهما في الوجود الإنساني ولا يمكن تغييرهما! حيث يتم ترسيخ هذه المنظومة عبر عملية تعليمية يفرضها أصحاب المال و النفوذ والسلطة، بهدف إدامة وترسيخ الاعتياد على الأمر الواقع القهري والقبول به، فيصبح الناس عندها متأرجحين بين وهم التفاؤل وقهر التشاؤم غير قادرين على تغيير واقعهم وسعيهم الجاد نحو المستقبل.
وينسون بعدها التفكير في إحداث أي تغيير.
يرافق ترسيخ هذه الثقافة ( ثقافة القهر) بنظره في أغلب الأحيان اتجاه دائم عند الناس لاقتباس واستيراد الفكر والثقافة من مجتمعات أخرى متفوّقة لحل مشكلاتهم، دون فحص لها أو نقد، عندها تترسخ في مجتمعات المقهورين ثقافة مغتربة عنهم وعن همومهم وسياقاتهم لم يألفوها من قبل!
يرى فيريري في التعليم أنه وسيلة للثورة على القهر، وصولاً إلى الحرية وإلى تمكين المقهورين من مقدراتهم، ومنهجه في تحقيق ذلك يرتكز على ‘الحوار’ الذي يتبادل فيه المعلم والمتعلم دوريهما، فيتعلم كل منهما من الآخر، ويصبح موضوع الحوار الذي يدور في الغالب حول أوضاع المتعلمين المقهورين الحياتية هو المدخل إلى تعليمهم القراءة والكتابة.
وهذا المنهج مناقض للمنهج الذي أسماه فريري ‘التعليم البنكي’، الذي يقوم فيه المعلم بإيداع المعلومات التي تحتويها المقررات ‘ سابقة التجهيز’ في أدمغة المتعلمين، الذين يقتصر دورهم على التلقي السلبي لتلك الإيداعات، ومن شأن ذلك التعليم البنكي أن يخرج قوالب مكرورة من البشر تساهم في تكريس الوضع القائم، ولا تسعى إلى تغييره مهما احتوى من أوضاع جائرة.
أهم ما يميز رؤية فيريري أنها جاءت تعبيرًا عن أوضاع المجتمعات المقهورة وقدمت تفسيرًا لما يعانونه من (الفقر والتبعية والقهر والجهل) ومن ثم استهدفت تمكين هذه الشعوب من تجاوز التخلف عن طريق التربية التي تقود إلى التحرير، تحرير المجتمع من مشكلاته الاجتماعية، وعن طريق حق الحوار والحديث مع الآخر، لا الحديث إلى الآخر.
taasoleiman@gmail.com