المسافات لم تتغيّر.. وورق الغربة ما زال نحاسياً كورق الخريف.. ورمال الصحراء ملحُ العمر ما زالت تتحرّك كثبانه من رياض الشباب إلى أودية الكهولة.. ما الذي تغيّر إذن؟.. ولماذا برد فنجان الشوق بيد العائدِ إلى وطنه؟!.. لم خفت وهج الحنين؟؟ ولم نعد نرى الغربة كما كنّا نراها.. بأنها «جُبّ» الغياب.. والناجون منها هم شركاء يوسف بالحظّ.
قلوب الأمهات.. مخبزُ اللهفة.. بيدر الشوق.. اذا أطفئ تنوّر الانتظار عند غيابهن.. يتغيّر كل شيء.. تصبح تذكرة السفر تشبه مخالفة السير؛ عبء وغرامة وإكراه.. وتحضير حقيبة الملابس.. كتحضير سلة الغسيل.. وصوت الطائرة على المدرج هديلٌ ممل، و تأخّر الوصول أو الإقلاع بضع دقائق أو ساعات.. لا يضير كثيراً.. ففنجان الشوق فاترٌ.. والمتواجدون في صالة الانتظار لا أحد.
قبل عشرين عاماً كانت عودة الغيّاب كرنفالاً حقيقياً.. كان للغربة رائحة.. الطرقات مفروشة بالشوق لهم.. كنا نكنس مداخل بيوتهم لأنهم قد يحضرون في أي لحظة.. نغسل أدراجهم.. نجهّز مناماتهم وأغطية الأولاد.. نخبّىء حصصهم من فاكهة الدار بالرف العلوي من الثلاجة.. وننتظر طويلاً حتى يحضروا.. لم تكن الهواتف المتحرّكة متاحة في ذلك الوقت.. لذا كان القلب هو الساعة والخارطة و الهاتف.. نجلس طويلاً وقت الغروب حتى منتصف الليل.. نراقب السيارات المارة شمالاً المحمّلة بالحقائب والعربات.. تمشّطها عيوننا، ثم تودّعها عندما تكمل مسيرها.. لا زمن محدداً للوصول.. «التياسير» هي سجادة الطريق التي يمشي عليها المغترب.. وهي أسفلت الانتظار الذي يرقب طرفه قلب الأم وعين الأب وشوق الشقيق..
كان للغربة رائحة.. أجملها رائحة فرش السيارة القادمة من بطن الصحراء في الصيف القائظ، تلك الرائحة تشبه عرق الآباء المتعبين.. تشبه رائحة حقائب الحجّاج.. فيها مزيج بين الزمان والمكان.. فيها خليط مسافات وأمنيات، فيها «مسكُ» الشوق الذي لا تشبهه رائحة على الإطلاق.. كان للغربة صوت شجي أيضاَ.. أغاني محمد عبده القديمة كلها نشيد الغربة.. وأشرطة «ميحد حمد» وطلال مدّاح على التابلو.. تلك الرمال التي اختبأت تحت جناح السيارة، علب «التانج» المدحولة تحت الكراسي.. بعض قطوف الرطب المنسية على المقعد الخلفي.. ومقتنيات صغيرة من مستلزمات السفر.. كل ما سبق كنت أسمّيه: علامات ترقيم الغربة.. حتى الغربة بقسوتها وبعدها ودموعها وطول أيامها.. كانت أجمل.. فالوصول عيد والوداع انفطار..
المسافات لم تتغيّر.. والصحراء ما زالت موج الأيام الأصفر.. نحن الذين تغيّرنا.. نحن من نفخنا بالضجر على شمعة اللهفة.. فأطفأناها..
ahmedalzoubi@hotmail.com
الرأي