المقابلات غير البريئة .. وتوارد الأهوية
عبدالحميد بن حميد بن عبدالله الجامعي
24-07-2019 02:56 PM
بينما يصحبني النظر في آخر يوم مجهد بين صفحات الواتس الخضراء، شدني كمُّ الرسائل والتداخل في إحدى المجموعات الثقافية السريع والمتوالي، لأجد القوم تزاحموا وأقاموا منبر مناظرة كبيرا حول بناء المساجد، مقابل إغاثة الفقراء، وبناء المرفقات العامة، وكان قد بلغ السجالُ في الأمر مبلغه، حتى تفرقت ركائبهم متنافرة متدابرة، فلم أجد إلا والمقام يأخذ بيدي ليلزمني الإدلاء برأي وفكر، فكان له ما أراد، مقالا بلسان عربي وبنان عدي، أضعه بين يدي القارئ الكريم.... لعله يرضى..
يكثر بين الفينة والفينة مقابلة الأمور بما ليس منها ولا يدل عليها، ويكون ذلك عادة في سبيل النيل من أحدهما باستدعاء المقابل المضاد، إن حسنا فالمقارن به سيئة، وإن سيئا فالمقارن به حسنة، وفِي الغالب تكون هذه المقارنات غير بريئة، ولها أهداف متضمنة، يمكن للقاري استشرافها من خلال سياق الطرح، وتعابير الطارح، ولا يستثنى من ذلك جماعة من البشر، تمسكوا بمبدأ ما، أم تفلتوا عنه، ولأجل البيان نضرب لذلك مثالين اثنين، من فريقين نقيضين تماما... رأي العين...
لقد ظهر المثال الأول في وضع المجموعة أعلاه بمقارنة بناء المساجد بحاجة الفقراء، والذي كثيرا ما يسجع له ويضرب له المثل تزيينا كـ " لقمةٌ في بطن جائع، خيرٌ من ألف جامع"، وفِي هذا المثل وغيره مقابلة تتضمن تقريرا وحكما نافذا أن سبب الفقر هي المساجد، أو أن بناء المساجد سبب في عدم التخلص من الفقر، والضاربون لهذا مثلا، يعون أنهم يختزلون بذلك فعل البر في جانب واحد فقط، كما إن سياق مقابلتهم لا تتحقق صحتها إلا لمن ظهرت لديه حالات فقر، وقامت عليه الحجة بها، وخُيِّرَ فيها، فصرف النظر عنها لبناء مسجد ما، فهذه الحالة الوحيدة فقط التي يمكن أن يكون بناء المسجد موزورا لصاحبه وليس مأجورا، أو أقلها غير مأجور فيه ولا موزور، لأنه ترك الكبد الرطبة والإنسان وإحياءه في سبيل بناء الصروح الجامدة، ولو كانت مساجد -وهل كان مسجد ضرار الذي هدمه الرسول صلى الله عليه وسلم إلا مسجدا من حيث المبنى والعمل- وهؤلاء تشعر في منطلقاتهم تحميل المساجد شتى أنواع التراجع، فمع الفقر أضافوا المكتبات الثقافية والحدائق العامة ومنتزهات الأطفال، على أن مخططات المدن بها مسجد وحديقة وأرض مجلس عام وأرض ملعب ومنتزه، ولا يقطع المسجد على الحديقة، ولا العكس، كما إن المسجد صعيد إنساني مفتوح يجتمع فيه الفقير والغني كتفا بكتف، مذكرا كلا منهما بالآخر، معطيا الفرصة لكليهما بتماهي الفروق ووحدة المنطلق، كما وحدة صلاتهم ومعبودهم، ولكن أصحاب هذه المقابلة لم يستطيعوا رغم هذا أن يخفوا أنهم موتورون بسببٍ من الفهم خاطئ، أو تأثر من الآخر غير منضبط اتجاه انتشار المساجد اليوم بمقابلتهم غير البريئة آنفة الذكر...
أما المثال الثاني على المقابلات غير البريئة فهي من الجهة المقابلة، أي نقيض الأولين، الذين جعلوا الموسيقى والغناء مقابلا للقرآن الكريم، ومن الأمثلة السائرة في ذلك " الغناء رقية الزنا" (وإن صح ذلك في مواقف بعينها كما يصح غيره من الكلام).... والأثر " لا يجتمع حب الغناء وحب القرآن في قلب عبد مؤمن"..فجعلوا عدم إمكانية اجتماع الموسيقى أو الغناء والقرآن في قلب امرء مؤمن تهمة ضمنية ودلالة على فساد الموسيقى حتى أنزلتها بعض الآراء الحرمة، وأنها نقيض القرآن مباشرة، وهذا أمر لا يحكى فيه الاتفاق، ولَم يأت عليه القطع من المسلمين، والتجربة والواقع خير برهان، مع ما ورد فيه من أثر ذي خلاف واختلاف، فاستخدامه بهذا التعميم وهذه المقابلة عملية غير بريئة، تماما كما مقابلة بناء المساجد بالفقر وشح المكتبات والحدائق العامة، وجميعها متكلف من قبل من أطلق، فالأولون ضد بناء المساجد وانتشارها في كل مربع كما هو اليوم، فقابلوه بالفقر وشح المكتبات، فحُمِّلت المساجد بذلك ما ليس لها فيه ذنب، والأخيرون أبغضوا الموسيقى، فجعلوها مقابل القرآن، ففي وجودها ينعدم القرآن من القلوب، وفِي عدمها يوجد القرآن فيها...وهذا مرة أخرى تحميل أمر ما غيرِ مقطوعٍ بمنعه مضادةَ أمرٍ مقطوع بعظمته، وهو القرآن الكريم.
خلاصة الرأي أن الأمور يجب إنزالها منازلها المستقلة، وأن يتم تناولها لذاتها وما تخلفه من آثار بينة ظاهرة، سلبا وإيجابا، تزكية للنفس ودسا، بشكل علمي موضوعي، وأن المقابلات التي يراد بها التدليل على تحريم أمرٍ ما أو إبغاضه بمقابلته بآخر يكثر فيها الخضوع للأهوية، ويكثر فيها التعميم، فيما لا يجوز فيه التعميم أو الرأي المنقطع للقائل، وهذا ممتد على مدى البصر، وليس هو وقفا على هذين الموضعين، مما يحتم الإخلاص والحذر، مهما كان رأيي في أمر ما، ما لم يكن مقطوعا به، ومتفقا على ضره فلا يجوز لي "كلوتته" وحشره، وكأن رأيا آخر مخالفا لي غير قائم إلا رأيي، والله الموفق والهادي الى سواء السبيل.
ملاحظة: لست ممن يميل للغناء ولا يتبعه، ولا ممن يسمع الموسيقى أو يطرب إليها، لا نشأة ولا بيتا، ولكن الحق أحق أن يقال في هذا المقام... ولست بذلك أزعم الخيرية لي على من يرى خلاف ما أرى، فلكلٍ بيانه، ولكلٍ دليله، وما دامت تزكيةُ النفس والتقربُ الى الله دون شرك أو ظلم هو مطلبَ المرء ما كان، فالله لن يضيعه.