حين نستذكر الزعيم الكركي الاردني الغساني ابراهيم الضمور, تتداخل الذكرى مع الموقف البطولي الرائع لزوجته عليا, مثلما تتداخل مع القهر والظلم الذي عاشته منطقتنا أواخر أيام العهد العثماني, وحين نستعرض حكايته نتأكد أن روابط الدم والدين والقومية والمصير التي تجمع ابناء شرق نهر الاردن مع ابناء غربيه أقوى من كل التقسيمات وأصدق من كل عنعنات مدعي الوطنية وهم يسعون للتفريق بين ابناء الشعب الواحد ونتاكد أن استشهاد ابن المجالي عند واحدة من بوابات القدس معلقا على حبل المشنقة يتساوى مع تضحية شيخ الضمور بولديه للحفاظ على عهده مع الجماعيني ابن نابلس, وبذلك فان استعادة وتذكر ما حدث في الكرك عام 1832 ليس مجرد رواية بطولة لشخص معين وانما لتاكيد مضامين الوحدة بين ابناء الشعب الواحد على ضفتي النهر المقدس .
لم يكن قاسم الاحمد (الجماعيني) وأصله من عشيرة العموش بني حسن التي استوطنت قرى فلسطين أيام صلاح الدين الايوبي يدري إلى أين يتجه بعد أن تقطعت به دروب الامان لكن عبير الرجولة القادم من إباء الكركيين رسم خطاه اليها ليحتمي بالمجيرين الذين يشكلون سنداً وأمانا لكل طريد ابتعد عن ديرته ويبحث عن الامان, فقصد بيت الشيخ ابراهيم الضمور ليجد زوجته وحيدة في البيت, الا أن اخت الرجال علياء بنت يونس العقول, رحبت بضيف الرحمن, واجارته بعد ان طلب الحماية من ظلم القائد إبراهيم باشا ابن محمد علي الالباني حاكم مصر, وقبل ان تعرف أن ضيفها أهم زعامات جبل نابلس وكان يتوكل الضرائب للدولة العثمانية فيدفعها عن الناس ويحمي مصالحهم ويحفظ كرامتهم, لكن جشع الدولة العثمانية وهي تواجه نهاياتها ضيق على الناس حياتهم فتمردوا على الظلم والحيف, وتصدى قاسم الأحمد لقدره في القيادة وتحول الى طريد ثائر تقتفي اثره جيوش إبراهيم باشا, لتلقنه ومن معه درسا في الخنوع والامتثال لكن ثائرنا الذي يعرف المصير المنتظر اختفى عن الاعين, وقادته خطاه الى بيت الضمور, الذي لم يكن يأبه بما عرف عن إبراهيم باشا من قسوة ورثها عن أبيه حاكم مصر "محمد على باشا", الألباني الأصل, الذي بسط نفوذه على مصر وبلاد الشام والسعودية حتى السودان,مستغلا ضعف وتهالك الدولة العثمانية التي استحقت آنذاك لقب الرجل المريض. وأناب ابنه في البطش والتنكيل باحرار العرب في الشام والقدس ونابلس والكرك ومكة والمدينة يطارد الثوار, لاخضاع البلاد والعباد لحكمه وحكم ابيه .
حين عاد الشيخ إبراهيم الى بيته وجد قاسم الأحمد, فاحتضنه مرحباً واعطاه الامان, وكان أن شعر المستجير بما هو اكثر من الامان وهو يستضاف يوميا في بيوت ابناء الكرك لاكرامه وليلتفوا حوله عزوة ترفع الراس, وتمنع عيون متتبعيه من الظفر به لكن القدر يشاء أن يكتشف الخونة والمندسون ان قاسم الأحمد يقيم معززا مكرما ضيفا على ابراهيم الضمور واهل الكرك, فيحاصرها ابراهيم باشا طالبا بغيته التي ازداد توقير الكركيين لها فامتنعت عن تسليمه وتحصنت بالرجولة والشجاعة والصبر مؤثرة مصاعب الحصار على ذل الاستسلام ومثلبة التخلي عن المستجير, وكان أن وقع نجلا ابراهيم الضمور سيد وعلي في قبضة العسكر العثماني الذي يحاصر مدينتهم الصامدة وكانا في جوار المدينة يتفقدان الرعاة حين فوجئا بالعسكر يحيطانهم من كل جانب, ويحملانهم الى قائدهم الذي يبدأ المساومة بنذالة فيكتب القائد التركي :
( إلى شيخ الكرك إبراهيم الضمور .. تسلم الكرك، وتخضع ورجالك, وإلا أحرقت ولديك.
الإمضاء -إبراهيم باشا )
كان اختطاف الشمعتين التين تضيئان بيت ابراهيم الضمور صدمة مذهلة لكنها لم تنل من عزيمة الوالد الذي استشار اهل مدينته وهو يعرف مسبقا انه سيكون لهم موقف يحفظ شرفهم وان كان الثمن غاليا, كان الدحنون على سفح شيحان يذرف الدمع وكانت مياه سيل الكرك تنوح بصوت مثقل بالحزن منادية يانبتتا الريحان والرمحان الردينيان يا مبعث الامل ويا جوهرة الروح وكان وجهاء المدينة يتجمعون في بيت قائدهم ليؤكدوا له استعدادهم للسير في ركابه حتى آخر الشوط, وكان ابراهيم الضمور الانسان يفكر بمشاعر زوجته وام ولديه فيمضي اليها ليجدها شامخة شموخ قلعة الكرك واصلب من صخورها سيدة متوسطة الطول في عينيها كل معاني عفاف الأنوثة , عزيزة النفس، لم يرها يوماً مدبرة وما عاد الى بيته بعد سهر ليجدها نائمة، ولا شاهدها متضجرة من الدهر فهي أبدا صابرة فخورة ذات رأي صائب يجد فيها إبراهيم عوناً في ملمات الأمور.
وانكرت السيدة الفاضلة ما في وجه إبراهيم من تجهم واضطراب, فتساله ويجيبها
( والله ما أخذتك لبياض خدك. ولكن لأني أعرف أنك من أشرف نساء الكرك. تزوجتك على أمل أن يكون لي منك أولاد يصونون عرضي ويحمون شرفي. واليوم قدر الله أن يختبرنا. وهذا الباشا يقول تسلم الكرك يعني نسلمه عرض الكركيات وإلا أحرقت ولديك )
وبكل الانفة والكبرياء اجابته العلياء :
( الرأي لك والله ما على الحياة أسف بعد العرض والشرف. ألف إهانة لمال ولا إهانة للعيال. ألف إهانة للعيال ولا إهانة للعرض. ألف إهانة للعرض ولا إهانة للدين، فلا والله شرفك وعزة نفسك، وشرف الكركيات أولى من حياة السيد وعلي، وعلى كل حال لو قلت للسيد وعلي أريد خلاصكم بتسليم الكرك فإنهما يرفضان، قل للباشا يقتل إن كان لا يقبل الجزية ) .
وفي الصباح يعقد الكركيون مؤتمراً يقررون فيه تسليم الكرك لتخليص السيد وعلي ويذهبون إلى إبراهيم يعرضون عليه رأيهم لكن زعيم الكرك الذي يتجرع حلوها ومرها، ويحمل ثقيلا حمولها، وخيرها وشرها، يزأر كالاسد :
( لا تحاولوا إقناعي، والله لا أسلم الكرك للدولة ولو أحرقوا السماء فوق السيد وعلي.العيال؟ الحياة؟ لاأعرف لها قيمة. الشرف خير منها اذهبوا عني وإلا قتلت نفسي بسلاحكم. استعدوا للموت. كلنا نموت السيد وعلي فداء للعرض والشرف نار الباشا ولا نار الفضيحة والعار.)
وعند عتبة الباب تصرخ عليا ليسمعها الجميع:
( حنا ما تعودنا نسلم الدخيل..في الأولاد ولا في البلاد يا شيخ ..الأولاد فيهم عوض, أما الشرف والنوماس .ماله عوض.)
ولايكتفي شيخنا بذلك فيعاود طرح الموضوع على ام العيال التي لاتملك غير جوابها الاول فيجتمع وجهاء الكرك ليعلنوا أن مدينتهم ستظل اكبر من ذل الاستسلام وهم يعرفون ان سيوفهم مواضي ورماحهم عصية على الانثناء وان في نفوسهم من الايمان ما هو كفيل بصمودهم وباسمهم يخرج ابراهيم الضمور ليعلن للناس ( نار الباشا ولا نار الفضيحة والعار. اقتل، احرق، والله ما تدخل يا ابرهيم باشا الكرك وانا على قيد الحياة، احرق وأنا أقدم لنارك الحطب والقطران…ويا اهل الكرك ليحمل الجميع السلاح ولتغني الصبايا ولتزغرد الأمهات..اليوم عرس سيد وعلي..وياعليا ارفعي بيارق الفرح فوق ابراج القلعة ويا نشميات الكرك زغردن ولينطلق البارود.
ومقابل اسوار المدينة كانت النار تستعر وكانت اعين الكركيين ترقبها وهي تقدح شررا اقوى منها وكانت زغاريد الكركيات تتجاوب في الوهاد المحيطة بالمدينة حتى ارتفع صوت فوق اصوات الجميع الباشا يلقي بسيد في النار.. والشيخ إبراهيم يصرخ بأعلى صوته يا النشامى..يا النشميات ..زفوا سيد يا ناس زفوا العريس ..الله اكبر..الله اكبر وكانت أصوات الناس تتجاوب بشهامة مع صوت قائدها حتى ارتفع صوت متفرد ليعلن القاء علي في محرقة ابراهيم باشا ويتبعه نداء الوالد لزوجته ( زغردي ياعليا.. زفي الشهداء زفي العيال زفوا الشهداء يا أهل الكرك النشامى الموت ولا المذلة.. وارفعوا الصوت ردوا على الباشا..خلوا الباشا يسمع. ومن فوق اسوار المدينة الشامخة ارتفعت الزغاريد ليصل صداها الى البلقاء ونابلس والى تخوم الشام, ومن فوق اسوار القلعة رفع النشامى بنادقهم واطلقوا رصاصهم في الهواء على عادتهم حين يحتفلون في الاعراس, وفي عيني علياء تجمد الدمع رغم ان النار التي احرقت ولديها كانت تستعر في احشائها.
حين شهد ابراهيم باشا كل هذه الصلابة والعنفوان اشتاط أمر جنوده باقتحام المدينة وأبوابها الحصينة.. فاندفع الكركيون.. «رجالاً ونساءً وأطفالاً بقلوب تجهل معاني الخوف والجبن.. كانت حجارة القلعة تتدحرج من الأعالي فتسحق صفوف المهاجمين وكان الرصاص ينهمر كأنما يتدفق من كوى في السماء, وإذا الجيوش التي روعت الاستانة واقلقت أوروبا ترتد أمام إباء المدينة التي تربت على الكبرياء ورفضت المساومة والخضوع.. وابراهيم الضمور واقف كالطود يرقب موقع الحريق الذي التهم ولديه الذين ارتقيا للسموات العلى وهما يرددان كن قويا يا ابراهيم الضمور كما عهدناك دوما وكوني صابرة ايتها العلياء التي يتشرف بالانتساب اليها الرجال الرجال.فعرف الباشا أن لا قدرة له على الانتصار على هؤلاء القوم.. فأمر عساكره بالانسحاب بعيداً عن الكرك المحصنة بالارادة والتحدي.
كان ابراهيم الضمور يقف على اسوار القلعة وقد غاب عنه كل شعور بالحياة, غاب في سكرة من الألم وتأنيب العاطفة الأبوية والشعور بالعزة, رأى كل ما حوله أشباحاً تتحرك فلا إرادة ولا قوة ولا بصيرة, لحظة من الوجوم والجمود تلاها صوت يدوي كالرعد يلاحق العسكر المنسحبين:
( والله ما أنا بالرجل الذي تهمه الحياة في سبيل الشرف وليعلم الباشا إني رجل لا كباقي الرجال، ليعلم أن لي نفساً تفوق نفوس البشر وإن كانت على الرغم منها ومني تسكن كبقية النفوس في هذا الهيكل الرث الذي يشبه الهياكل البشرية. ليعلم أن لي نفساً لا يذلها الحب، ولا تستعبدها العاطفة لقد ضحيت بولدي مبتسماً من حماقة الدهر الذي يحاربني ظناً منه أنه يجد من إبراهيم سليل الغساسنة ذلك الرجل الجبان. فإلى اللقاء يا السيد ويا علي.)
وما ان حل الليل حتى افصح رفيق درب شيخنا الشوفي اسماعيل المجالي عن خطته بتهريب الدخيل باتجاه الحجاز محتميا بصمت وسرية الصحراء التي تفهم لغة النخوة والشجاعة والمروءة, وغادر الرجلان بيت ابراهيم الضمور والكرك باتجاه معان, وفي طريقهمت اتفقا على الافتراق لتضليل عيون ابراهيم باشا, لكن الأقدار لم تترك لهما مجالا للنجاة فقد قبـض علـى إسماعيل المجالي حول مدينة معان ونقل إلى القدس حيث أعدم في مدخل سوقها.وأقام قاسم الأحمد, في حماية الصخور أثناء توجهه إلى السلط, حيث وجد الملاذ برعاية أبناء قبيلة الصخور الذين اسكنوه حصنا وكانوا ينقلونه إلى المراعي بين الرعاة والفرسان, في حال استشعارهم بأرجل غريبة في الحمى, لكن ذلك كله لم يخفف شوقه لجبل النار وفي الطريق كانت أعين الغدر والخيانة بالمرصاد, فوصلت إلى إسماعيل فحاصرته قوات الباشا,و نقلته إلى القدس لتنفيذ حكم الإعدام به شنقاً, وعلى اسوار المدينة المقدسة كان طيف اسماعيل المجالي يتراءى للناظرين وكانت كوفيته راية تلوح لقاسم الاحمد وتبشره بقرب اللقاء مع السيد وعلي اللذين قضيا حرقا دفاعا عن حقه في الحرية والكرامة على ارض وطنه.
*الصورة تعبيريه ..