على وقع الغياب وعلى أرصفة وشوارع الفقد ضاع مِنّي الوقت والرغبة، وانسابت الأيام من بين أصابعي كما الماء، وتجاوزتني الأشياء وأنا أبحث عن السلام في واقع مكابر مُرٍّ عنيد، متعجرف لا يعرف للعطاء سبيلا ولا للمودة والرحمة دليلاً ، واقع تعوّد التمتع بأوهامه كمدمني الحشيش تماماً، واقع ماتت على أعتابه كل الحكايات البريئة والاحلام الصغيرة، والتفاصيل الأخرى ماتت أيضًا، واقع أخرس متبلّد الحواس لا يحسب حساباً للفقد ولا للخسارة ... عناده كفر ما رأيتُ فيه سوى الكآبة تمتد نحوي لتبدد آثار الأحلام الوردية التي ظلّت عالقة في أرجاء نفسي وأرعاها ردحاً طويلاً من الزمن...
ما أصعب أن تجبرك الأيام أن تعاشر رعاعاً من ورثة ابليس على هيئات بشر، متدثرين بأوهام الاسم وأكاذيب رواياتهم ضمائرهم عارية ونفوسهم بالية، يريدونك أن تكون متصلّباً في حساسيتك، أو منحلّاً في شخصيتك حتى تتحمل سخافاتهم ودروسهم المشينة في الخيبات وقلة المروءات! ...
فاقد الشيء يسلبك كل شيء يا صاح! وكأنه ينتقم فيك من كل ما فقد! كيف يمكن للمرء أن يتحمل كل هذه السخافات من حوله وهو بين حلم لا يكتمل وواقع لا يحتمل يقرع أبواب النسيان تارةً ويغوص في ثنايا العمر المتهالك ينشد الذكريات والمواقف تارةً أخرى، يتقلب بين ثنايا الأيام كخطأ في متاهة ويصمد ويحاول استيعاب الأمر. أفكاره تتصارع بداخله في كل لحظة بينما يظلّ صامتاً ولا شيء يحرّر ابتسامته من لعنة الحزن والألم ليعلن انتهاء مسلسل الهراء ومقارعة أصحاب السوء.
ما أصعبَ أن تنطفئ رغبتك من كل شيء، لا تنجذب إلى شيء ولا يلفتُ انتباهك شيء وتشعر بفراغ قاتل يفتكُ بك، تتعايش مع فكرة أنك قابلٌ للنسيان، ما أصعب أن تشعر بأنّك خسرت أشياء كثيرة لم يعد بمقدورك استرجاعها، ما أصعب أن تصل يوماً إلى قناعة أنّ كل من مرّ بك أخذ جزءاً منك ومضى .....
كم أنا محتاج لأن أعتذر لنفسي عن تلك النوايا الطيبة التي أسديتها على طبق من ذهب لأناس جوعى مروءةً وحياءً، ما أكبر ذنبي في حق نفسي! لن أغفر لنفسي هذه البراءة ما حييت لن أغفر لنفسي...
أبدتْ لي الأيام ما كنتُ جاهلاً حقاً! بيّنتْ لي الأيام أن من اعتاد العزفَ على آلة الغش والتزوير والخداع لن يتقن أبداً لحن الحقيقة مهما دربتَه وعلمته، وأن المنبت السوء لا ينتج إلا خضراء الدِّمن، وأن الذي خَبُثَ لا يخرج إلا نكداً وأن قافلة الماضي الغابر لن تصل بأحد الى أي مكان والأيام كاشفة وهي أفضل جهاز لكشف الكذب، كلهم كاذبون يا صديقي، الشاعرعندهم غير عاشق وكبيرهم الذي علّمهم السحر يكذب بكل صدق ويخدع بكل أمانة، وصغيرهم.. ينافق بكل براءة ويزوّر بكل تفاني .... تباً لكم لم يعد يغريني منكم أحد!