"أشبعناهم" شتما وفازوا بالإبل
19-10-2009 01:23 PM
في التاريخ حيث المشهد الأصدق للأحداث ، بعد أن يموت أهل الديار جميعهم ، ويدفنوا تحت الجنادل والتراب ، ويأكلهم الدود ، ويستحيلوا الى عظام بالية ، وتتحدث عنهم الأمم اللاحقة ، نقرأ من أسفارهم ونرصد أسباب المصائب والنكبات ، كما نرصد أسباب التقدم والانتصارات في شتى مناحي الحياة .. ولعل أهم مبادرة أو أجندة أو مشروع كانت سببا في تلافي الأخطاء ، وتخطي المصاعب ، واستدراك الأمور قبل أن تقع الشخصيات في المحذورات ، هي المناصحة واستشارة أهل الرأي السديد والحكم الرشيد على الأمور ، حتى أصبح لدينا نحن أمة أقرأ التي لم تعد تقرأ ولا تفكر سوى في قائمة مشترياتها وبرامج التحول الاقتصادي والاجتماعي ، أصبح لدينا إرث من الأمثلة والحكم التي لا نستفيد منها ، وواحد من هذه الأمثلة ما قاله الأعرابي يوما " أشبعتهم شتما وفازوا بالإبل " .
مثل هذا الأعرابي الصادق اللمّاح الفصيح ، هو ما ينطبق علينا في هذه الأيام معشر الكتاب وأهل الرأي والصحافة والسياسة ممن تأبطوا الوطن ، فما نامت أعينهم ونامت أعين الجبناء ، والفاسدون والسارقون وأعين أهل المناصب والأعمال ، ليلهم الطويل ، وأمطرت عليهم سقوف الفلل وجدران الشلل ، وقهقهات العذارى الثمالى ، أمطرت عليهم أحلاما سعيدة ، أسعد من سعادة ملياردير عجوز في حضن غانية كاعب مغموسة بالجمال والبضاضة نضت عن قدها الغض ما لا يستر ولا عنه يـُغض ، عجوز قضى العمر في صبابة سافل متصاب لم تردعه شيبة ولم يزجره منصب فاستراح جسده على شواطىء عذراء لبحر ليس بميت ولا يحاذيه عقبة .
المشكلة إنني أجلس أحيانا أفكر فيما يجري من أمور ، وأقلب العقل بين الفكرة والفكرة ، وأستعيد ما مضى من خوالي السنين وكم من مواعين الورق كتبنا وأقلام كسرنا ، ونفثنا من دخان بات سما على سمومهم ، ثم أطرق الرأس على الطريق عل يلوح له بارق ، أو يلعج العشق في فؤاد ملّوع فما جاءت صوادف الأيام بما يشبه الإبتسامة ..
ليس تشاؤما بل حرصا على أن لا يضيع يوم دون إنتاج فكرة أو مبادرة جديدة ناجحة تسعف هذا الوطن الغارق بدخان السجائر وحشرجات الحناجر ، فأجد إن اجتهادنا في معظمه كان مضيعة للعمر والفكر .. حتى بتنا نستذكر نوح عليه السلام حينما أفنى ألف سنة إلا خمسين وهو يدعو قومه كي يعبدوا الله ويتركوا " ودًّا وسواعًا ويغوث ويعوق ونسْرا " تلك الأصنام التي عبدوها ولا تزال تعبد .. فدعا نوح ربه وقال " ربِّ لَا تَذَر على الْأَرض من الْكَافرين دَيَّارًا .. إِنَّك إِن تَذَرهم يُضلُّوا عبادك ولَا يلدُوا إِلَا فاجرا كَفَّارا " .
هنا لن ندعو بما دعا به نوح ولكن ، نضرع الى الله أن يعجل بالفرج ويذهب بالكّرب وأن ييسر لهذا الشعب الطيب من المسؤولين ممن يبكي لآلامه .. ويرأف بحاله ، وأن يحرم نفسه بعض ما أسرف على نفسه .. ليس رحمة بهذا المواطن " الغلبان التعبان الهلكان " ، بل رحمة لنفسه المسؤولة ، حينما يعتمر قبعة الشيب ، ويضربه المرض في مقتل ، وتتدلى قدماه الى قبره ، ميتا ، جثة جيفة ، يسارع به الأهل والأحباب والأصحاب الى حفرة تحت التراب ، ويواجه مصيره دون منصب ولا مال ولا أعمال إلا ما قدمت يداه ، ولا سائقين سوى سائق يقوده الى نعيم أو جحيم .. ولهم فيمن سبقهم عبرة .
بصراحة إذا لم تكن الصحافة ومجلس النواب أدوات من أدوات الإصلاح ، وروافع من روافع الدولة ، وعونا لها كرقيب وناصح ومؤشر لمواضع الخلل ، وإذا لم تتعاون هذه مع تلك في صنع حاضر ومستقبل أفضل للمواطن وأبناءه وأحفاده .. فلا خير بهم جميعا .. ولنفتح البلد ملاهيا ومراقص وحدائق ترفيه لكل من هب ودب .. ولنتحول من أصحاب همّ عام وحملة رسالة سامية ، الى " راقصات " وسقاتٍ ومغان ٍ ، ولتكتب عنا الأمم اللاحقة ولتسجل لنا تاريخنا الناصع البياض ، في صفحات خالية من أي إنجاز .
باختصار أخير .. نحن نسهر الليل ونزعج النهار صخبا .. نفكر ونحلل ونكتب وننصح ، وهناك من ينامون الليل الطويل مستمتعين بحصائد أيامهم ووظائفهم ورواتبهم ومدخراتهم ، فليهنئوا بما كسبوا ، ولنشقى بسلاحنا الذي أدمى أكتافنا "ولم يطلق على الجاني رصاصة بندقية " ..
لن نكتب عن نهاية وطن شجاع .. ولكن سنكتب عن بداية جيل الضياع ، إن لم يتدارك العقلاء أمرهم و يتخلصوا من رواسب الفساد التي علقت في كأس الوطن الذي نضب ، ونحن عطشى .
Royal430@hotmail.com