تتوالى تصريحات وزير التعليم العالي والبحث العلمي بعد توقف دام أيام فقط عقب الأزمة التي تسببت بها قرارات الحكومتين القطرية والكويتية بوقف اعتماد عدد معتبر من جامعاتنا الخاصة والرسمية لأغراض التحاق طلبة البلدين الشقيقين للدراسة فيها. تداعيات القرارات الكويتية والقطرية كادت أن تسبب أزمة أردنية داخلية ليس بسبب القرارات ذاتها ولكن بسبب اللغط الكثير الذي أحاط بتصريحات الوزير الذي يعتبره كثير من الأردنيين نعده بيت خبرة في مجال التعليم العالي.
اليوم يعود معاليه للتصريحات حيث ورد عنه عبر إحدى الفضائيات أنه مع التعليم المجاني في مؤسسات التعليم العالي ،وأن هذا التعليم قد يصبح حقيقة في المستقبل ليس البعيد.كلام جذاب وفيه تفاؤل ويزيد من شعبية الوزير والحكومة ،حيث أن ذلك يصيب مواضع ألم وينكأ وجع عند الناس الذين ترهقهم الرسوم الجامعية والموازي والدولي وغير ذلك من البرامج التي تستنزف مقدرات المواطنين.
والحقيقة أن تصريحات الوزير المفاجئة رغم أنها سارة فإنها لا تصمد أمام الواقع الذي تعيشه جامعاتنا، لا بل وحكوماتنا المتعاقبة .مديونية حكومية تراوح 40 مليار وعجز متكرر في الموازنة الحكومية، ومديونية إجمالية للجامعات الحكومية تصل إلى أكثر من 140 مليون دينار، وتآكل في البنية التحتية للمؤسسات التعليمية، وعدم القدرة على دفع النفقات المتكررة ، فمن أين سيتم تمويل التعليم المجاني؟.
الحكومة تدفع قرابة 70 مليون سنويا للجامعات حتى تتمكن من دفع رواتب العاملين فيها فهل ستتمكن الحكومة من أن تدفع كامل نفقات الجامعات في ظل غياب رسوم الطلبة التي تغطي ما يتراوح نسبته بين 34-94% فقط من النفقات المتكررة في الجامعات الرسمية !خمس جامعات رسمية لا تغطي إيراداتها من الرسوم رواتب العاملين فيها وهي(الطفيلة التقنية والحسين بن طلال وآل البيت واليرموك والجامعة الأردنية فرع العقبة).بقية الجامعات باستثناء الهاشمية والعلوم والتكنولوجيا بالكاد تغطي إيرادات من الرسوم نفقاتها المتكررة.
كلام الوزير يبعث على التفاؤل لكن عند التفكير فيه مليا نصاب بالصدمة إذ انه ليس كلاما واقعيا ولا يستند لأي مسوغ مالي أو سند مقنع يمكن أن يترجمه إلى واقع.الحكومة تعجز عن دفع 140 مليون دينار مديونية الجامعات فهي ستدفع نصف مليار أو 500 مليون سنويا لتسير هذه الجامعات؟والسؤال الأجدر هل تنوي الحكومة ممثله بوزير التعليم العالي أن تحول الجامعات ومؤسسات التعليم العالي إلى دوائر حكومية وبيروقراطيات تتلقى الأوامر والتعليمات من المركز إلى الفروع لتأخذ طريقها للتنفيذ وفق رؤية الوزير ومجلس التعليم العالي؟ما الفرق إذن بين المدارس التي تدار مركزيا من قبل وزارة التربية والتعليم وبين الجامعات الحكومية! وهل يمكن أن يصبح رؤساء الجامعات يقومون بدور مقابل أو مشابه لدور مدراء المدارس ما دام أن التمويل من المركز؟
أينما وجد التمويل فإن الرقابة تلحقه لا بل تصاحبه حيث يصبح الممول هو من يساءل وهو من يقرر الاتجاهات والسياسات.وهنا نتساءل عن دور مجالس الأمناء في حال تولت الدولة تمويل التعليم العالي وهل سيبقى هناك مبرر لوجودها؟
على ما يبدوا أن معالي الوزير تأثر بطبيعة وتنظيم وتركيبة وزارة التربية والتعليم ،حيث يرتبط مدراء التربية بالوزير وهؤلاء المدراء يتولوا الإشراف والرقابة على المدارس نيابة عن الوزير .الجامعات تختلف كثيرا عن المدارس واعتقد أن تمويها بالكامل من الدولة سيجعل منها مدارس كبيرة وستبتعد كثيرا عن أهدافها المتعلقة بالبحث العلمي وخدمة المجتمع وسيقتصر دورها على التدريس.
تجارب الدول الاشتراكية والشيوعية في التعليم العالي المجاني فشلت وتجارب الدول المجاورة بطريقها للتلاشي ، حيث أصبحت الجامعات الخاصة تنتشر في ربوع سوريا ورومانيا وروسيا والصين وغيرها.التعليم العالي المجاني يمكن أن ينجح نجاحا محدودا في دول غنية ولديها الملاءة المالية لتمويل هذا التعليم والإنفاق عليه .الجامعات في دول الخليج العربي معظمها أصبح يتقاضى رسوم جامعية باهظة رغم إمكاناتها الكبيرة والمتجددة فمن أين سيمول وزير التعليم العالي الأردني حوالي عشرة جامعات حكومية معظمها غارقة بالديون والحكومة عاجزة عن سداد نفقات المبتعثين من قبلها لهذه الجامعات!! كنا نتمنى لو أن كلام الوزير وتصريحه بشأن مجانية التعليم العالي قابل للتحقيق ولكن هيهات هيهات.....