" أُهدي هذه الرواية ، إلى خير من استحق الإهداء ، إلى أحبِّ النّاس لقلبي وأقربهم إليه ، إلى نفسي ، ولو قلتُ غير هذا ، لكنتُ شيخ المنافقين من أرضِ النفاق " ، هكذا افتتح الروائيّ يوسف السباعي روايته المشهورة ، " أرض النفاق " ، ولعلّهُ - بقصدٍ أو بغيرِ قصد - ، سلّطَ الضوءَ على الغريب بين أهلهِ ، والوحيد على أرض وطنه ، على العالق في "لعنة" الغُربة .
كم يؤسفنا اليوم ، أعداد المُغتربين بيننا ، لا أقصدُ هنا الغُربة بمعناها الاصطلاحي - أيّ أنَّ شخصاً يعيش خارج وطنه - ، بل أقصدُ غُربة الأخلاق ، وغُربة الدين ، فكم من شخصٍ بيننا ، يشعر بأنّه غريب بين الجموع ، لامتلاكه " خُلقاً " حميدا ، فالصّادق أصبح " أبلهاً " ، والكاذب المُخادع أضحى يُلقّب " بالحِدِق " ، هنا أصبحنا للأسف
نمدحُ الذّم ونذمُّ المدح ، وكأننا وضعنا قانونا جديدا للحياة ، نصّه الأول : ينبغي عليكَ نزعُ مكارم الأخلاق منك ، وارتداء ثوب الدّين بطريقة تناسب
" الموضا " .
ذكرتُ في مقالٍ سابقٍ لي ، أنّنا نحتاج إلى " ثقافة الإصلاح " ، فانعدام منظومة الأخلاق لدى المُعظم ، أدّى إلى " قلب الآية " في مجتمعنا وأسلوب حياتنا وتعاملنا مع بعضنا ، فأصبح صاحب الأخلاق مُجبراً على ترك أخلاقه ونبذها بعيدا ، لكي يستطيع الانغماس في المجتمع ، حتى لا ينتابه شعورٌ بالغُربة ، فالصادقُ بين جموع الكاذبين كاذب ، والأمين وسط المُخادعين مُخادع ، لذا علينا النظر في السبب الذي جعلنا " نخلعُ " أخلاقنا الحميدة ، ونرتدي عباءة النفاق والخِداع .
ربما لأنّنا وجدنا الأمور أسهل هكذا ، والتعامل فيما بيننا أبسط ، فالأخلاق موجودة لدينا ، فغضضنا الطرف عن أخلاقنا وجعلناها دفينة في أعماقنا ، لهذا وجب علينا أن نمتلك " ثقافة إصلاحٍ " خاصة بنا ، لتكون بمثابة " شوكة الحفر " لنُنَقِّبَ بها عن أخلاقنا الدفينة .
" إنّما بُعِثتُ لأتممَّ مكارم الأخلاق " كما جاء في حديث الرسول مُحمّد عليه الصلاة والسلام ، أو "أحبّوا بعضكم بعضاً " ( يوحنا ١٣:٣٤ ) ، فالديانات السماوية ، جميعها بلا استثناء ، حرصت على زرعِ الأخلاق في البشر منذ قديم الأزل ، فترى الدين يتممُّ الأخلاق ، بل ويذهب بها إلى أبعد من هذا ، من تحويلها من قيمة معنويّةٍ حميدة ليس لها مُقابل ، إلى فعلٍ يُثابُ فاعله ، في الدنيا أو الآخرة على اختلاف الأديان ومذاهبها ، كلُّ هذا جاء في سياق إبراز الأخلاق ليكون صاحبها " رمزا " في الدين وبالتالي في مجتمعه ، لا ليكون غريبا مطرودا بين جموع الفاسدين ، فأنّي أرى الخَلوقَ في مجتمعنا ، " كالنبيّ " في قديم الزمان ، يظهر كصاحب فِكرٍ جديد وبديع وصادق ، ويُقَابَلُ بالاتّهام بالجنون أو الكذب ، لينتهي بهِ المطاف ، وهو يواجه " ثُقبا أسود " يجذبه إليه كي يبتلعه ، يُدعى الغُربة .
ارتفاع نسب البطالة ، وانعدام الطموح ، ونُدرة فرص الإنجاز في وطننا ، كانت " حجر الأساس " لبناء مجتمع " مكبوت " ، مخنوق فكرياً ومحاصر ماديّا ، كلُّ هذا أدى إلى " تَجوّهر " فكرة السفر إلى الخارج والاغتراب ، ظنّاً مِنّا أنها الوسيلة الوحيدة لهدم ذلك البناء والقفز خارج أسواره العالية ، لكنّا نُصْدَم بواقع مرير ، فنزيد الغُربة غُربة ، باختلاف أفكارنا وعاداتنا بل حتى شخصيّاتنا عن أصحاب البلد الجديد ، فربما نكون صادقين في مجتمع جديد فنغدوا مختلفين لأنَّ المعظم كاذب ، فننحاز للصادقين منهم ظنّاً منّا أنهم سيرحبّونَ بنّا ، فيكون ردّهم أنت " مغترب " لا نعرف من تكون ، فاذهب من هنا ، فنصبح مُغتربين من " الدرجة الأولى " ، فنعود إلى بلادنا لأنَّ أول ما سيجول في خاطرنا : "بلادي وإن جارت عليَّ عزيزة .. وأهلي وإن ضنّوا عليَّ كِرام " ، لذلك هي " لعنة " لأنّها تطاردنا في كل مكان .
إنَّ ما يجعلُ الغُربة خطيرة ، كونها فكرةً لا أداةً ملموسة ، ففي كل عقل تدور فكرة الغُربة ، لأنَّ كلاًّ مِنّا يمتلك حُلما وطموحا لكنّها غريبة بالنسبة لأيّ شخص آخر ، فنحيا ونموت وتلك الأحلام والطموحات تقبعُ في زنزانة " الخوف " من الغُربة ، والرّهبة من أن يرانا المجتمع بعين الاختلاف .
هل فعلاً نحتاج إلى " ماء الأخلاق " ؟ كي نروي بها أرضنا فنجني " ثماراً " حميدة ، أم أنّ الأخلاق موجودة فينا لكنّها دفينة تحتاج إلى " تنقيب " ؟ ، نحن بحاجة إلى إحياء الأخلاق ، لأنها الخصم الوحيد والقادر على هزيمة الغُربة .