"أمّا المُجازون المُغتربون، فَمَنْ يُنْصِفهم؟"
عبد الحافظ الحوارات
18-07-2019 11:28 AM
تُعاني فئة لا بأس بها من موظفي نظام التقاعد المدني من غُبنٍ واضح نتيجة اجتهادات تراكمية لوزراء تطوير القطاع العام في الحكومات المتتالية. حينما أتكلّم عن تلك الفئة فإنّي في واقع الحال أصِفُ قطاعاً ضخماً تعداده آلاف الموظفين المصنّفين في القطاع العام ممّن حصلوا على إجازات بلا راتب ولا علاوات، وغادروا الوطن بحثاً عن لقمة العيش خارج حدوده.
في غيابهم تحقّق للوطن مكسبين عظيمين؛ المكسب الأوّل كان في حجم الشواغر التي توافرت بمجرّد حصولهم على الإجازات، ممّا ساهم في تخفيف حجم البطالة بين الخرّيجين الجامعيين الذين كانوا ينتظرون فُرَص التعيين طوال سنوات عديدة. والمكسب الثاني أنّهم مع غيرهم من المغتربين الأردنيين، وحسب تقرير البنك الدولي لعام 2018، قد أوصلوا الأردن للمرتبة الرابعة عربياً من حيث حجم حوالات أبنائه والتي بلغت مع نهاية ذلك العام إلى نحو 4.4 مليار دولار مُشَكِّلة ما نسبته 11% من إجمالي الناتج المحلي. المكسبان العظيمان للدولة يقابلهما مع الأسف خسارة كبيرة وحَيف وظلمٍ شديد وقع على تلك الفئة الكبيرة من الموظفين المدنيين، ولمّا يتم بعد رفع الظلم عنها رغم العديد من المطالبات.
قبل نحو عشر سنين اجتهدتْ إحدى الحكومات فأصابتْ؛ وذلك بعد أن عدَّلَتْ قانوناً كان يُحدِّدُ سقفَ المدّة الزمنية القصوى التي يجوز للموظّف العمومي أن يقضيها مُجازاً بلا راتب أو علاوات. القانون الجديد كان حَسَناً وأزال سقف سنوات الإجازة بأن جعلها مفتوحة، ممّا أدّى إلى استقرار الأردنيين في الخارج بوظائفهم التي يتنافسون عليها بشدّة مع أشقائهم من أبناء الدول العربية الأخرى، والبقاء بها لأطول مدّة ممكنة. وبالتالي فقد ضمنتْ الحكومات استمرار مورد هام من موارد العملة الصعبة الذي يرفد خزينة الدولة الأردنية العطشى.
لا الحكومات ولا مجالس الأمّة ولا النقابات تُلقي بالاً لعرائضٍ كثيرة رفعتها تلك الفئة المظلومة، فذهبت مخاطباتهم أدراج الرياح أو نحو سلال المهملات. وأقصى رد فعل حكومي حَظِيَتْ به استغاثاتهم هو تشكيل لجان، خضّ الماء هو أبرز اختصاصاتها. لكن ما الذي تُطالب به تلك الفئة الكبيرة من الموظفين يا تُرى؟
لا يَسمح القانون للموظفين المصنّفين والمحكومين بقانون التقاعد المدني من الاشتراك في الضمان الاجتماعي، ولا يسمح قانون التقاعد المدني بحصول الموظّف على راتب تقاعدي يحفظ له كرامته وشيبته إلّا بعد أن يُكمل حدّاً أدنى من الخدمة في الأردن مقدارها خمس عشرة سنة قبل بلوغه سنّ الستين، فماذا يفعل الموظّف المُجاز للتوفيق بين متغيّرات معادلته الصعبة تلك؟ عمرٌ يمضي، ووظيفة يكافح للبقاء فيها خارج الوطن، وقانون لا يُنصف شيبته ولا يُصلِح فجوة مُخلّة لم ينتبه إليها المُشرّع، ولم يكلّف نفسه حتى الآن معالجتها بنظام أو بقانون معدّل؟! بكلّ بساطة، لن يحصل هؤلاء الموظفين على رواتب تقاعدية، وسيخرجون في ظل هذا التخبّط بمبالغ مالية زهيدة تدفعها الدولة لهم كمكافآت سيصرفونها خلال بضعة أشهر. ثمّ سيتوحّدون بقية أعمارهم وآلام مفاصلهم بلا تأمين صحي أيضاً، أيّ نهاية مرعبة تنتظر هذه الفئة يا حكومتنا؟
لا يمكن لدولة راشدة أن ترمي بعض أبنائها من الموظفين الحكوميين على قارعة الطريق! ولا يمكن لقانون معدّل أن يتم إقراره دون أن يتمّ النظر إلى مظالم وقعتْ على آلاف الموظفين المدنيين الذين يستمرّ مسلسل تضررهم دون مُتابعة حكومية، أو اقتراح حل منها، حتى ولو كان جائراً.
يتساءل أحدهم باستهجان: وماذا يفعل أبناء الدولة حينما تُهملهم الحكومات؟ فيجيب الآخر: وماذا عسى أن يفعل الابن البار بآبائه! قالوا بأنّهم لم يتركوا مِنبراً إلّا وقرعوا عليه أجراس مطالباتهم المنطقيّة؛ لم تَسمع شكواهم مجالس نواب عديدة، وآثرتْ أن تنشغل بمناقشة تقاعدات أعضائها. خاطبوا وزير تطوير القطاع العام ولم يحرّك ساكناً. ناشدوا ديوان الخدمة المدنية ولا من مُجيب! وجّهوا عرائضهم إلى المؤسسة العامّة للضمان الاجتماعي فطرقوا أبوابها وردّتْ عليهم بإنّ قانوننا لا يسمح لكم بالانتساب إليه! غريب أن يتمكّن العامل من الأشقاء المصريين أو السوريين أو غيرهم من الانتساب للضمان الاجتماعي، وبعد زمنٍ يحصل المنتسب على راتب تقاعدي يُكرّم به عند المشيب، ويصله حيثما تواجد في أسقاع المعمورة، فيما يُحرم من ذلك الأردني وهو الموظف الرسمي الذي ما زال محتفظاً برقمه المالي الممنوح له من قبل وزارته! أيّ مغالطة هذه يا أولي الأمر؟!
أبناء الدولة حينما تهملهم الحكومات، من ذا الذي سينصفهم؟ وإلى من يلجأ أولاء المظلومين، ونحو أي ملاذ سَيَفرّون؟! احفظوا لهم كرامتهم ولا تتركوهم بلا آذان صاغية، فيضطرون وعمومهم قد جاوز الخمسين عاماً، لامتهان كرامتهم في شموس الشوارع كي يرفعوا يافطاتهم البيضاء على قوارعها بعد أنْ أغلقتم في وجوههم كل المنابر.