يتمنّى كثيرون لو تستنسخ وسائل الإعلام المحلية تجربة ريادية عربية سبقتنا إليها إثنتان من كبريات الفضائيات المغربية إذ استحدثتا موقع "محرر نزيه" Ombudsman لتلقي شكاوى المشاهدين حول الوجبة الاخبارية المقدمة لهم وضمان دقّة وتوازن وموضوعية التغطية الاعلامية.
فقبل أيام, أعلن جيفرى دفوركين, المدير التنفيذي ل¯ "منظمة الاومبودزمان الإخباري" أن الشركة الوطنية للإذاعة والتلفزة وقناة (2 م.ت.ف) انضمتا لشبكته, وبذلك أضحت المغرب أول الدول العربية التي تنضم للمجموعة والثانية في الإقليم بعد تركيا.
يوفر هذا الأمبودزمان (محقّّق شكاوى) بوليصة تأمين على حقوق متلقي الخدمة في حالة شعروا أن الوسيلة الاعلامية أو الصحافي الذي أعد مادته ارتكب خطأ ما في تغطية الموضوع او أظهر انحيازا واضحا لطرف على حساب الآخر. ويفترض في هذا "المحرر النزيه" أن يتوسط المسافة بين إدارة المحطة أو الصحيفة ومقدم الشكوى, وأن يكون ارتباطه مباشرة بمجلس إدارة الشركة, لا مع رئيس التحرير.
بخلاف ذلك, لن يتشجع متابعو الوسيلة الإخبارية على إرسال شكاواهم إلى محرر مستقل يفترض أن يعمل حارسا لحقوقهم عبر معالجة الشكوى وتصحيح الخطأ أو, على الأقل, شرح الأسباب وراء وقوع اللبس. وقد توكل لهذا المحرر المدافع عن حقوق القراء اقتراح حلول بعد دراسة عملية "طهي الخبر" لتقليص فرص تكرار الشكاوى. من واجبه أيضا إبلاغ المؤسسة والرأي العام بنتيجة دراسة الشكوى المقدمة.
ما أحوجنا هنا إلى مثل هذه المعادلة.
قد يتساءل البعض في مجتمعنا عن موجبات تعيين محرر داخلي مهمته إطلاق "صافرة الإنذار بوجود رئيس تحرير مسؤول او رؤساء اقسام يفترض بهم التأكد من دقة وتوازن الخبر قبل نشره"? ويظل بلا جواب السؤال المليوني: لماذا تختار الوسيلة طوعيا شخصا يمارس دور محقق شكاوى قد يشوّه سمعتها بسبب نشره الغسيل الوسخ على الملأ?.
يخالف هذا الرأي الزميل دفوركين, أول أومبودزمان إخباري لدى هيئة الإذاعة الوطنية في الولايات المتحدة بين 2000 و.2006 يقول دفوركين إن بإمكان "المحرر النزيه" المعيّن تقدير موضوع الشكوى بطريقة حرفية وموضوعية تفوق أسلوب تعامل الصحافيين معها.
وهو يستند بذلك إلى تجربة خاضها عام ,2006 حين وصلته شكاوى متكررة من مستمعين يشددون على أنّ تغطية الإذاعة للانتفاضة الفلسطينية كانت تتأرجح بين التعاطف مع الموقف الفلسطيني أو الاسرائيلي. إنذاك, طلب دفوركين إجراء دراسة على التقارير المبثوثة أظهرت أن بإمكان هذه التغطية الإخبارية أن تكون أكثر اتزانا. اقترح بعدها أن تشرح الإذاعة للمستمعين جذور الصراع العربي- الإسرائيلي وتعرجاته التاريخية. وهكذا بثّت الإذاعة سلسلة تقارير في العمق تتفحص ما وراء الخبر وكيف وصلت الحال إلى ما هي عليه اليوم بدءا من القرن التاسع عشر ثم "وعد بلفور" الذي قسم أرض فلسطين التاريخية عام .1917
ربما لم يقتنع جميع المستمعين بأن هناك روايتين متضادتين حيال الصراع في الشرق الاوسط, حسبما يسترجع دفوركين. على أن تلك السلسلة التوثيقية خفضّت وبشكل ملحوظ من عملية تبادل الذم وسهلت طريقة التعامل مع الشد المتولد لدى الجمهور.
وفي سياق معالجة الشكاوى جلس دفوركين شخصيا خلف المايكرفون ليوضح للمستمعين موقف الإذاعة وزار عددا منهم ليشرح لهم أن التغطية الإخبارية لا تعني اتخاذ موقف إنما سرد الوقائع في سياق قصة تراعي أكبر درجة من الدقة ما ساعد المجتمع على فهم أسس "الصحافة الجيدة" ومنطلقاتها.
وتظهر دراسات أجرتها شبكته ومقرها مدينة تورنتو الكندية أن الرأي العام والمؤسسات الإخبارية التي خاضت هذه التجربة تقدّر دور "المحرر النزيه" في منع انحراف الوسيلة الإعلامية عن رسالتها المجتمعية.
فالمحقق يساعد الوسيلة على أن تكون أكثر استقلالية عبر إظهار حرصها على ممارسة النقد والرقابة الذاتية, ما يحصنها في مواجهة الضغوط الخارجية القادمة من الحكومات ولوبيات الضغط وأصحاب النفوذ السياسي والاقتصادي, كذلك يساهم في تحقيق وفورات مالية. فموقعه يسمح له بالتوسط لإيجاد حل بين الطرفين قبل أن تنتهي القضية في المحاكم ما يخفض فاتورة التقاضي بنحو 30 بالمئة.
يستذكر دفوركين خبرته كأمبودزمان هيئة الاذاعة الوطنية الامريكية ليدلل على أهمية إدخال هذه التجربة بطريقة مؤسسيه. في مستهل عمله عام 2000 كان يتلقى 1900 شكوى الكترونية. في سنته الأخيرة 2006 قفز الرقم إلى اكثر من 82.000 رسالة الكترونية, وآلاف الرسائل البريدية والمكالمات الهاتفية.
لكن على عكس ما قد يفهم, لم تتراجع مستويات التغطية الإخبارية للإذاعة, بل أظهرت نموا مستمرا في اهتمام المستمعين بمسألة الاعلام ورغبتهم برؤيتها تخضع لمقاييس الجودة العالية. أظهرت الهيئة ايضا التزامها بحق المستمع في المساءلة ورغبتها بتطوير نوعية البرامج المذاعة.
ختاما, هذا هو دور محقق شكاوى الأخبار ومقالات الرأي والتحليل الاخباري بكافة أشكاله إضافة الى الصور المنشورة. أي هو"عين الجمهور" من خلال منح الرأي العام نافذة على مطبخ التحرير, وضمان وجود إعلام وطني نزيه يستطيع الرأي العام أن يثق به لان خدمة المجتمع تقع في صميم أهدافه.
ولئن تلكأت وسائل الاعلام الريادية في الأردن عن خوض تجربة الأمبودزمان, لا بد من التفكير في تأسيس هيئة مستقلة لضبط الجودة وضمان النزاهة لتلقي شكاوى الأردنيين حيال طريقة تعامل وسائل الاعلام العامة والخاصة مع الأخبار التي تمس حياتهم.
وقد تطوى هذه الهيئة المنشودة تحت جناح المركز الوطني لحقوق الانسان, الذي بات يحظى بدعم واحترام مجتمعي واسع لجرأته وموضوعيته في طرح قضايا إشكالية, بدءا بالحريات العامة والانتخابات وأوضاع مراكز الاصلاح والتأهيل - السجون - إنتهاء بدراسة ومعالجة شكاوى العمالة الاجنبية.
تخيلوا سيناريو كهذا. تبدأ وسائل الإعلام تدريجيا بتبنّي منصب محقق شكاوى القراء وتخضع نفسها لمساءلة شفافة, أمام كادرها والرأي العام. بعد شهور, تتعزّز صدقية ومهنية هذه المؤسسة ويزداد عدد متابعيها, ما يصب في زيادة إيراداتها. ثم تستطيع رفع سقفها عبر الاتكاء على رصيدها الشعبي لا على دعم مراكز قوى ونفوذ غارقة في لعبة السياسة التي تتطلب انتهازية ووصولية ومكيافيلية.
بالتزامن, تشرع المؤسسة في صقل كادرها الاعلامي, من خلال تدريب حرفي مستدام يرفع من سوية العاملين بطريقة منهجية, وبالتالي تزداد حرفية المنتج الاعلامي بما يبعد هاجس التعرض لمساءلة قانونية أو التهديد والابتزاز المعهود.
ثم يقوى عود هذه الوسائل ويشرع الاعلاميون والمجتمع من ورائهم في تطبيق حقهم في الوصول الى المعلومات ورفع دعاوى ضد من يخفيها. وتزداد قناعات السلطة بأهمية أن يمارس الإعلام دوره الرقابي بحرفية وموضوعية وأمانة. كما تنهال عشرات الطلبات يوميا على الوزارات والدوائر العامة والخاصة لتكشف الثغرات في القانون. ثم تبدأ حملة منظمة لتعديله والمطالبة بتعديل قانون حماية وثائق وأسرار الدولة الصادر قبل 40 عاما, وغيره من التشريعات المناهضة للشفافية, ذلك أن الممارسة ستكشف صعوبة تطبيق سياسات الإفصاح التي تصنف على اساسها المجتمعات والدول الديمقراطية.
عندها سيكون الإعلام قادرا على خدمة المجتمع وتطويره وتغيير انطباع المسؤولين بأن الاعلام ضعيف مهنيا ومعرفيا, ولا يسعى للوصول الى المعلومات والحقائق.
في المحصلة, يكسر طوق الخطوط الحمر الوهمية التي ساهم رتل الإعلاميين في ترسيخها أو قبولها كأمر واقع.0
rana.sabbagh@alarabalyawm.net