انقلاب 14 تموز .. والمراجعات التاريخية
د. بسام البطوش
15-07-2019 06:32 PM
يمكننا بعد فترة من اكتمال الصورة العودة لتصفحها وتفحصها وتأملها بهدوء أكثر، وقد نتمنى لو أن المشهد كان افضل ترسيما، وقد نتمنى تغيير بعض تفاصيل الصورة واعادة ترتيبها، هكذا هي الحياة تحتاج التأمل وإعادة التأمل والمراجعات الدائمة، وفي الأحداث التاريخية الكبرى الحاجة أكبر للمراجعات الموضوعية ، فلن تكون الأحكام المتسرعة وقت الحدث مفيدة ومجدية ومنتجة، أو قادرة على الثبات، لقد كانت تجربة الحكم الهاشمي في العراق محل دراسات وأحكام متنوعة، موضوعية وعميقة حينا، و ايديولوجية وسطحية حينا آخر، وتعددت المواقف والآراء منها وحولها، بتعدد المواقع والمصالح والأيديولوجيات والارتباطات، وبعد قرن من الزمن العربي بتحولاته وانكساراته ووقائعه وخيباته ودروسه، صار لزاما معاودة النظر والتدبر في مجمل أحداث القرن الماضي، من زمن العرب الحديث.
تابعت اهتماما ملحوظا لدى المؤرخين والمثقفين العراقيين بمعاودة تأمل المشهد والتجربة الهاشمية في العراق، وتتجدد المعاودات بمناسبة ذكرى الانقلاب الدموي 14/تموز/1958، الذي أنهى المملكة العراقية، وجاء بالجمهوريات العسكرية الى الحكم. على وقع مجزرة دموية غاية في التجبر والوحشية. راح ضحيتها العائلة المالكة، وفي مقدمتها الملك الشاب فيصل الثاني، الذي خرج الى فناء القصر رافعا المصحف الشريف والراية البيضاء، لحماية أفراد العائلة وجلها من النساء والأطفال، لكن الوحشية والدموية تغلبت على الأبرياء والنساء والعزل والانسانية.
نلمس في الكتابات العراقية الجديدة حنينا للزمن الهاشمي وثمة احساس بالذنب، ونجد وقفات لا تخلو من الأسى والحسرة على الواقع العراقي ما بعد "الانقلاب الأسود". ومن الواضح أنه بمرور الوقت تشكل تيار متنامي في الوجدان العراقي يدعو للتبصر في ظروف ونتائج نهاية الملكية الهاشمية؛ كمرحلة مشرقة في التاريخ العراقي الحديث.
وهذا المؤرخ العراقي الدكتور سيار الجميل يدافع عن ضرورة مراجعة حادثة خطيرة بنتائجها وكوارثها؛ كالانقلاب الدموي في 14 تموز1958، لجهة التوقف عن التزوير والتشويه وما أسماه " صبغ العهود السوداء بالألوان الزاهية".
مؤرخو العراق ومثقفوه يمتلكون الجرأة العلمية، لاجراء مراجعات تاريخية عميقة وجريئة. وهناك تيارات عراقية ثقافية وسياسية تمتلك الجرأة ذاتها للاقرار بأنه على يد الملك فيصل الأول ابن الحسين، تم بناء الدولة العراقية الحديثة، وتم ارساء دعائم دولة ملكية دستورية عراقية هاشمية برلمانية عصرية، تمكنت من بناء العراق الحديث، واشادة نهضته الأساسية في مجالات الحياة كلها، وأولها وفي مقدمتها بناء الانسان العراقي، وانجاز النهضة التعليمية، والتنمية الاقتصادية، وتمتين البناء الاجتماعي على أسس من التنوع في اطار الوحدة، واحترام التعددية الدينية والطائفية والاثنية، وصهر المكونات الاجتماعية في بوتقة الدولة الوطنية الواحدة والمجتمع العراقي المتماسك، وترسيخ معالم نظام سياسي عصري آمن بالتعددية السياسية والحزبية، و رعاية تعددية المنابر السياسية والثقافية والاعلامية.
وتحقيق الرخاء والاستقرار، وتوجيه الموارد الاقتصادية المتنوعة والكبيرة لتحقيق التنمية بموازنة مالية لا تعرف العجز ولا المديونية، وتخصيص ما نسبته 70% من عوائد النفط للاعمار.
وفي سياق المراجعات التاريخية للحدث، يعبرّ عراقيون عن قناعتهم بأن خسارة العراق كانت كبيرة جراء الانقلاب الدموي في 14 تموز؛ فقد دخل العراق عصر العسكر والموجات الانقلابية، وغياب الديمقراطية، وهدر الموارد، ودوامة الحروب والطائفية والاحتلال، فصدق في توصيف الحالة العراقية عنوان سعد البزاز "حرب تلد أخرى".
وهناك شبه اجماع في الذاكرة العراقية على محبة الملوك الهاشميين الثلاثة الملك فيصل الأول، وابنه الملك غازي، وحفيده الملك فيصل الثاني، وأن ما يرد من سلبيات وانتقادات حول تلك المرحلة، تتعلق في مجملها برجالات الطبقة السياسية المحيطة وممارساتهم.
ومما يلخص كثيرا من الكلام، رواية المؤرخ العراقي سيار الجميل، التي يصف فيها بداية صلة الهاشميين بتأسيس الدولة العراقية الحديثة، عندما ذهب وفد كبير من الشخصيات والعلماء و الأعيان والأفنديه العراقيين لمقابلة الشريف الحسين بن علي في الحجاز ليطلبوا منه فيصلا لمبايعته ملكا للعراق، فقال لهم : "أخشى أن يلاقي في العراق مصير جده الحسين" !! في إشارة تاريخية الى كربلاء الحسين بن علي سبط الرسول الأعظم صلى الله عليه وسلّم.
ولعل في مقدمة المراجعات التاريخية وابرزها وأكثرها جرأة للحدث البشع ما قام به الأردن الهاشمي في عهد قريب من الحدث، وبعد بضع سنوات من وقوعه، عندما بادر الراحل الملك الحسين بن طلال رحمه الله الى اعادة وصل العلاقات مع العراق القطر العربي الجار والشقيق. وامتلك الحسين الشجاعة والحكمة كعادته، متجاوزا الحدث الأسود البشع، الذي تسبب في انهاء الملكية الهاشمية في العراق، وحطم الاتحاد العربي الهاشمي بين الأردن والعراق، الذي انجزه الحسين قبل اشهر مع ابن عمه الملك الشهيد فيصل الثاني.
وهكذا تغلبت الروح الهاشمية وقرر الحسين أعاد فتح السفارة الأردنية في بغداد، متطلعا لخير الأمة وشعوبها، متعاليا على جراحه الخاصة، وأحزانه على أسرته وابن عمه ورفيق دربه فيصل الثاني، محلقا فوق تضاريس الواقع وعوائقه، مادا جسور الأخوة والمحبة مع العراق شعبا ودولة.
وتمكن بحكمته وشجاعته واخلاصه لأمته من بناء علاقات متينة مع العراق، الذي وقف جيشه لجانب الأردن في محطات صعبة عام 1967، وما امتد من التضامن والتعاون في الشؤون الاقتصادية والسياسية والعسكرية بين البلدين الشقيقين. ووقوف الأردن لجانب العراق فيما عرفه من أزمات وحروب وحصار وسواها من محطات كشف فيها الهاشميون عن تعاليهم على كل الجراح مهما كانت عميقة وغائرة حفظا لوحدة الأمة وتضامنها.