صفحات مشرقة من سيرة نساء كرديات، كن أخوات السلاطين، وأمهات الملوك وعماتهم، وجدات أمراء صغار، وكن أصحاب أموال ينفقنه على العلم وعلى العجزة والمساكين، ويوقفن المدارس ويجلبن الأطباء والصيادلة ليصنعوا أدوية وعقاقير بآلاف الدنانير ويوزعنها على الضعفاء والمرضى...
ومنهن محدِّثات وعالمات، كنّ حارسات الحديث النبوي الشريف وحافظاته، وأجزن أئمة ومحدثين كبارأً، كالإمام الذهبي، وابن حجر العسقلاني.
وفي الاعوام الماضية رأينا وسمعنا الكثير عن المقاتلات الكرديات في مواجهة داعش وجبهة النصرة في سوريا والعراق يمسكن السلاح ويحاربن جنبا الى جنب الرجال .
بحسب الإحصاءات الكردية؛ تشكل النساء نسبة 30٪ تقريبًا من المقاتلين الكرد، وتتراوح أعمارهن بين 18 و30 عامًا، ويخضعن لتدريبات قاسية لا تختلف عن تدريبات الرجال .
وأنني احاول التنبيه له هنا هو أن وصول المرأة لهذه المكانة تطلب صراعًا طويلًا، وجدالاً عميقاً ، وتوترًا بين الرفض والقبول، حتى وصل الأمر لمعركة مثل معركة مدينة عين العرب «كوباني»، حيث سجلت المقاتلة الكردية شجاعة نادرة وبسالة قتالية عالية المستوى، ما دفع بأحد قتلة «داعش» إلى قطع رأس إحداهن انتقامًا.
قد يعود السبب وراء شجاعة النساء الكرديات لنشأتهن بين الجبال، والتعلم للفروسية والقتال، مثلهن مثل الرجال.
وهذا ما دونه ميجر سون، الحاكم الإنجليزي لمدينة السليمانية في العشرينيات، في كتابه «رحلة متنكر إلى بلاد النهرين وكردستان»، أن نساء الكرد أشجع النساء في استخدام البنادق وهن على صهوة الفرس، وقد عُرفن ببسالتهن في القتال على مرّ التاريخ الكردي.
ولكن هناك نماذج تاريخية رائدة للمرأة الكردية، قد يكون سون ونيكيتين عاصراها، حيث برزت أسماء كثيرة لنساء في ثورات قديمة، مثل ثورة أرارات في 1930، والتي برز فيها اسم ياشار خانم عقيلة الجنرال إحسان نوري باشا قائد الثورة.
وفي عام 1946 كان لمينا خانم، زوجة الشهيد قاضي محمد، رئيس جمهورية مهاباد الكردية التي تأسست في أربعينات القرن الماضي، دوراً لا يستهان به في ترسيخ بنيان الجمهورية، وذلك عبر تأسيسها لـ «اتحاد النساء الديمقراطي الكردستاني»، في مدينة مهاباد، وحثِّها مع اخواتها الكرديات على نشر الوعي والاطلاع بين النساء الكرديات.
أما الأميرة روشن بدرخان فكان لها دور قوي بين الأوساط الثقافية الكردية في دمشق، حيث اشتُهرت بكونها أول امرأة تقرأ وتكتب باللغة الكردية، بالأبجدية اللاتينية، وذلك عبر مشاركاتها في مجلة «هاوار»، ووقوفها المتواصل إلى جانب زوجها الأمير جلادت بدرخان أحد رواد الصحافة والثقافة الكردية. وكانت روشن من المؤسسات لجمعية «إحياء الثقافة الكردية في دمشق 1954-1955».
يختلف المجتمع الكردي ثقافيًا عن نظيره العربي، وقد يفسر هذا شيئاً من اختلاف وضع المرأة بين المجتمعين.
لا يقتصر هذا على بعض الأمثلة الشعبية الكردية، على غرار أن «الأسد أسد، ذكراً كان أم أنثى». أو «المرأة هي القلعة، والرجل أسيرها»، بل يمتد ليشمل الملابس أيضاً، فعلى خلاف معظم شعوب الشرق الأوسط العربية والإسلامية لا تعرف المرأة الكردية النقاب، ولا تخفي نساء الكرد وجوههن أبداً، وتبعاً للعادات الكُردية الاجتماعية والدينية، لا وجود للبُرْقُع والنِّقاب في المجتمع الكُردي، وإنما يوجد الحِجاب فقط الذي يشبه إلى حد كبير العمامة عند الرجال.
رغم كل الظروف التي تعادي الكرد عموماً والمرأة بشكل خاص، إلا أن الثراء الثقافي والفلسفي والطبيعة المختلفة للأمة الكردية جعل المرأة رقماً صعباً ومميزاً في معادلة الشرق الأوسط قياساً بنظيراتهن من العرب أو الترك، لتصدق معها الأغنية الكردية "يا لفرحة الدار الذي فيه بنات".
رغم كل هذا، قد يعود الفضل الأكبر في تحقيق المرأة الكردية لكثير من حقوقها، لعبد الله أوجلان، أحد أكثر الشخصيات إلهاماً لدى الكرد، مؤسس حزب العمال الكردستاني والمسجون في إحدى الجزر التركية منذ قرابة العقدين.
ظل أوجلان مهموماً بقضية تحرير المرأة ومنحها كامل حقوقها، فلم تخّل كتبه من الإشارة لقضيتها، لدرجة أنه أنشأ
ما أسماه «علم المرأة»، كفلسفة اجتماعية لمواجهة الظلم الذي تتعرض له المرأة بالشرق الأوسط.
يشرح أوجلان أن قتل الرجولة لا يعني القضاء على الرجل جسدياً، بل القضاء على ما اكتسبته هذه الرجولة من خصائص بالية من قبل النظام الذكوري المستبد.
كانت أطروحات أوجلان بمثابة ثورة فكرية بالنسبة للمجتمع الكردي، حيث تحقق تبعاً لها تغير كبير في النسيج الاجتماعي الكردي، خاصة بالنسبة للعلاقات الاجتماعية بين المرأة والرجل؛ وصلت الحركة النسائية الكردستانية إلى درجة كبيرة من النشاط والحيوية، وشاركت بكل مجالات الثورة، السياسية منها والعسكرية، فيما تجسد في وحدات «حماية المرأة» التي شكلها الكرد بشمال سوريا عام 2012، على هيئة مجموعات نسائية مسلحة أثبتت كفاءاتها في ساحات القتال.
مصادر مسؤولة بحزب العمال الكردستاني تؤكد أن الحزب منذ تأسيسه عام 1978 سعي لضم المرأة إلى صفوفه بشكل تنظيمي ورسمي حتى تناضل من أجل حرية كردستان والمجتمع الكردي، وهو ما قوبل بانتقادات للحزب في ذلك الوقت، نظراً للعادات والتقاليد التي كانت سائدة وقتها.
لكن هذه الانتقادات جرى تجاوزها مع مرور الوقت، حيث بات انضمام المرأة للحزب، وحملها للسلاح في سبيل ذلك، أمراً عادياً يتقبله المجتمع.
من قيادات الحزب النسائية اشتهرت ساكينة جانزيز، التي كانت ضمن الصفوف الأولى في الحزب، وناضلت عسكرياً في جبال كردستان، واعتقلها الأتراك وبقيت في السجن لأكثر من عشر سنوات في الثمانينيات وحتى بداية التسعينيات، وأطلق سراحها لتستمر في الكفاح المسلح، وبعدها ذهبت لأوروبا للعمل السياسي والدبلوماسي، غير أنها اُغتيلت في 2013 مع اثنتين أخريين في فرنسا من قبل الاستخبارات التركية، بحد ادعاء الحزب.
كما شهدت حقبة منتصف الثمانينات إقبالاً كبيراً من المرأة على الالتحاق بالكفاح المسلح في صفوف العمال الكردستاني، حتى تجاوز عدد النساء المقاتلات الآلاف، واستُشهدت الكثيرات منهن خلال الاشتباكات مع الجيش التركي.
ومنهن من قامت بعمليات فدائية ضد الجيش التركي، وفي بدايات التسعينيات جرى العمل على تشكيل جيش خاص بالمرأة ضمن منظومة حزب العمال الكردستاني.
لا يتعلق الأمر بالإمساك بالسلاح فقط، وإنما يتعداه للمكتسبات والحقوق الاجتماعية، ففي عام 2014، أصدرت السلطات الكردية في شمال سوريا قانونًا للمساواة بين الرجل والمرأة ومنع العنف والتمييز ضد المرأة، فضلًا عن منع تعدد الزوجات، وحظر زواج الأنثى قبل سن الـ 18 عامًا، ونُصَّ في القانون على أن يتحمّل الطرفان تكاليف الزواج، كما أُقرَّ فيه أيضاً توزيع الميراث بالتساوي بين الطرفين.
ويمنح القانون المرأة الحق في الترشح، والترشيح، وتولي جميع المناصب، وتشكيل التنظيمات السياسية والاقتصادية والاجتماعية والثقافية، وألغى القانون المَهر باعتباره قيمة مادية هدفها «امتلاك المرأة»، حيث تحل محله مشاركة الطرفين في تأمين الحياة التشاركية، كما فُرضت عقوبة مشددة ومتساوية [على كل من الزوجين] على مرتكب الخيانة الزوجية من الطرفين، ومنح قانون المرأة الحق في حضانة أطفالها حتى إتمامهم سن الـ 15 عاماً، سواء تزوجت أم لم تتزوج ويكون بعدها حق الاختيار للأولاد.
كل هذا حدث بينما لا دولة مستقلة هناك للكرد، فيما يجسد في النهاية نظرة أوجلان، "تحرير المرأة أهم من تحرير الوطن".
وتبقى المرأة صانعة الأجيال