في قراءة تاریخ التحولات الاجتماعیة والاقتصادیة والثقافیة في بلادنا وما تحملھ من تعبیرات سیاسیة، لا نلمح تحولات واضحة في منھجیة عمل قوى التغییر الفاعلة في المجتمع والاقتصاد والسیاسة یمكن ان تقوم بدور الكتلة الحرجة، وھنا تكمن العلة الكبرى المتمثلة باستمرار الحلقة المفرغة والدوران حول الذات.
الكتلة الحرجة أي تلك المجموعة من الفاعلین السیاسیین والاقتصادیین والثقافیین من خلفیات متعددة ومن مدارس فكریة متنوعة لكنھم یتفقون على ھدف استراتیجي واحد ھو الانتقال بالمجتمع من مرحلة إلى اخرى، لذا تشكل ھذه الكتلة رأس حربة التغییر ومقوده، وتكون قادرة على تجاوز الخلافات في سبیل ھذا الھدف ویقاس نجاحھا في القدرة على بناء توافقات وطنیة في لحظة تاریخیة فارقة ما یقود نحو الانتقال الكبیر من حالة إلى اخرى.
لذا، فھي كتلة تاریخیة، لأنھا قادرة على الازاحة والتغییر، وھي حاجة وضرورة للبقاء لكل أمة ودولة في مراحل التحول والإصلاح وتصفیة الصراعات، وھي تاریخیة بالمعنى الحقیقي للكلمة لأن أھدافھا تاریخیة وتشكیلھا تاریخي، وبذلك فھي تجسید لوفاق وطني حول القیم الكبرى وتوافق حول الاولویات التي تجعل المجتمع یرى بعین واحدة المصالح الكبرى، وھذه الكتلة ھي البدیل الموضوعي عن الإقصاء والتھمیش، وأداة لإعادة تعریف المشاركة بآفاقھا السیاسیة والاقتصادیة والثقافیة.
لقد حان الوقت للاشتغال ولو معرفیاً وثقافیاً على نشر الوعي بضرورة تشكل كتلة أردنیة من نخب جدیدة وتقلیدیة أیضاً، ومن أعمدة الدولة وأركانھا ومؤسساتھا ومن نخب المجتمع المدني وتیاراتھ المتعددة من الیسار والیمین في المجتمع والدولة ومن البنى الثقافیة والاجتماعیة المختلفة، فالكتلة التاریخیة الجدیدة لا تتشكل بقرار سیاسي إنما ھي عملیة تاریخیة تحتاج ثقافة جدیدة ووعیاً بضرورتھا، وھي أكبر من البرلمان والاحزاب، وان كانت النخب النیابیة والحزبیة والفكریة قد تشكل مقدمة موضوعیة دافعة لانبثاق ھذه الكتلة.
والكتلة الحرجة بوصفھا تاریخیة لیست تنظیما ولا جماعة بقیادة وبیانات وقرارات، فھي حالة فكریة وسیاسیة واقتصادیة قد تبدأ بمزاج عام جدید یبني اصطفافا جدیدا عابرا للایدیولوجیات والاطر المؤسسیة والاعمار والجغرافیا حول قضیة عامة استراتیجیة ویُبنى على ھذا المزاج لیحولھ إلى حالة عامة ثم یراكم علیھ المواقف لیحولھ إلى ظاھرة، ثم تقود ھذه الظاھرة لاحتلال مكانھا في المجال العام وتبدأ بدورھا في تغییر المجال العام ذاتھ.
في ھذا المسار قد تندمج القیم الكبرى مع الأھداف، حیث إن تجارب العدید من الشعوب التي شكلت كتلھا التاریخیة وقامت بمھامھا المطلوبة، اعتمدت بشكل جوھري في نجاحھا على مدى وضوح الرؤیة أي وجود ھدف أو أھداف مركزیة واضحة ومحسومة، فكلما حققنا وضوحاً أكثر في الرؤیة والأھداف، استطعنا تحقیق المزید من الفرز والتوافق وقوة الدفع، والعكس تماماً كلما ازداد الغموض وضاعت الأھداف وتشعبت زادت حدة الاستقطاب، وكلما عجزنا عن تشكیل ھذه الكتلة التاریخیة، بینما عملیاً نمارس على الأرض مقولة “ العیش المشترك “ ولا نمارس بناء الدولة الوطنیة، فالعیش المشترك لا یحمي الأوطان، ولا یؤسس لتراكم وطني حقیقي.
عنوان الكتلة التاریخیة الاعتراف بالمصلحة الموضوعیة الواحدة وھي تمثل بصیغة أو بأخرى وضوح الرؤیة والأھداف وتتمثل أردنیا في ثلاثة أھداف أساسیة ھي حمایة الھویة الوطنیة، والدیمقراطیة، والتنمیة العادلة، وبدون كتلة جدیدة داخل الرسمیة وفي المجتمع المدني، وفي فعالیات السوق ومن القوى الجدیدة والتقیلیدیة وفي السیاسة المحلیة في المدن والأریاف بدون وجود ھذه الكتلة لا یمكن ضمان الاستمرار والنمو والاستقرار.
ولأن الأھداف السابقة لا یمكن أن تتحقق من قبل حكومة وحدھا، ومن قبل برلمان أو تیار سیاسي أو حزب أو فئة من المجتمع، ولا یمكن أن تتحقق بوعي طبقة وحدھا وتھمیش الآخرین، تصبح مھمة وجود كتلة تاریخیة ضرورة وطنیة مصیریة لا نملك في ھذا الوقت من أمرھا إلا نشر الوعي بھا.
الغد