الملك عبدالله بن الحسين في عيون عباس محمود العقاد
أمل محي الدين الكردي
11-07-2019 12:32 AM
في صيف 1945 تلقى رسالة من عبدالله بن الحسين ملك شرق الاردن رحمه الله وهذا نصها (سلام الله عليك وبركاته مع نفحات النبي وكرامات الوصي والاشعاع القدسي لآل البيت المصطفوي منا اليك مع الشعور الرقيق الأخوي ,فتقبلها خالصة مصفاة ,تالله لم يحبس لساني ولم يقف قلمي قط عندما أعتزم الكتابة أو القول ,كما احتبس لساني رضى الله عنه فثق يا عباس .وأسمح لي أن أدعوك هكذا بغير ملق المعاصرين أو تزلف بعض السابقين .
من أن روحانية الإمام دفعتني الى شكرك و الإشادة بذكرك ,فإنك قد أرضيت الآل بما لم يرضهم به تابعي أو شيعي أو سني ,وقلت الحق فيما كتبت بدون أن تنحاز الى ناحية من النواحي وسلكت في ذلك السبيل الشائك بدون أن تعلق بغصن منها أو فرع بل ولجت بحق وصرت الى نور فأوضحت السبيل فبارك الله فيك ورضي عن عملك وجهادك فوالله لو أجتمع من سبق ومن لحق من محبي الإمام لما جاؤا بمثل ما جئت به وأنني إذ أبعث بكتابي هذا اليك مع فوزي بك الملقي للقيام بواجب أراه قد فرض علي فلا يخامرك أي شك من أن الدافع لهذا هو إشارة قلبية شعرت بها وأنا في هذا العصر بقية الهاشميين ورأس العلويين ,فجزاك الله عن الأول منهما والثاني خير الجزاء).
جائتني هذه الرسالة ولم أكن قد أهديت جلالته كتابي عبقرية الإمام ,فرأيت من الواجب أن أبعث الى جلالته بسائر كتبي في العبقريات الأسلامية وتلقيت منه الجواب برأيه فيها على نحو ما تقدم ,وأثبت رسالة جلالته هنا لأول مرة لأنها في مقام التعريف به تدل على شيء كثير تدل على أسلوبه وثقافته وعلى نهجه وفي سلوكه وعلى أساس حقه ودعواه في نظره وما يعلقه على نسبه الكريم من المطالب والآمال .
ودعاني جلالته حين ذهبت الى فلسطين لزيارة عمان فحالت الحوائل دون الأستجابة الى تلك الدعوة الحفية ثم زار جلالته مصر فأبدى رغبته في لقائي وخاطب في ذلك مندوب القصر الملكي وفقاً للتقاليد فذهبت في الموعد الى قصر الزعفران وقضيت في الحديث مع جلالته أربعين دقيقة لم يبق موضوع من الموضوعات العربية الجلى إلا دار عليه بعض ذلك الحديث.
جلالة الملك عبد الله رحمه الله من اولئك الرجال الذين تعرفهم من حديثهم بعد لقاء واحد .وجملة ما عرفته من لقائه بعد ما سمعته عنه انه في الحق رجل المعي الذكاء لبق الحديث يؤكد أكثر مما يستطيع ومما يريد وله قدرة على تخفيف وطأة الجد بالدعابة فلا يطيق أن يهتم طويلاً دون أن يلطف جهامة الأهتمام بشيء من الطرافة والفكاهة فكنا نتكلم في مشاكل فلسطين والقضايا العربية ويستطرد جلالته الى نوادر عن اليهود وحرصهم على المال وحيلتهم بالتخلص من الحكام الذين يتعللون لأستباحة ما يطمعون فيه من أموالهم ومن تلك النوادر حاكماً مسلماً أراد أن يفرض عليهم دية السيد المسيح الذي يدعون صلبه فقالوا له ارفع الدعوة ونحن على استعداد لقبول حكم القضاء!.
وكنت أسمع ممن صحبوا جلالته أنه يسرى عن نفسه كثيراً بتلك الدعاية التي تبلغ في بعض الأحيان مبلغ النكاية ,فيروقه أن يدعو الى طيارته الصغيرة رجلاً من أصحاب المناصب وذوي السمت والوقار ويشغله بالحديث وهو يعالج أزمات الدوار والغثيان ليرى كيف يحتفظ بسمته ووقاره ,ويملك نفسه وهو يخاطب الملك والملك ماض في التكلم معه عن أخطر الأمور بجد بين لا هوادة فيه,وقد كان جلالته لا يبالي عواصف الجو لتربيته البدوية العسكرية وليس كل الناس بمعصم من دوار الهواء والماء.
وأحسب أن جلالته كان يصنع من الحوادث والخطوب ما كان يصنعه الرجال من ذوي المناصب والأخطار ,فإن عبست وتجهمت ضحك وتطلق غي جافل ولا مشغول بما ستسفر عنه بعد حين وإن هشت له وبشت ذهب مع الرجاء الى غير إنتهاء ,ولم ينس كما قال في رسالته أنه بقية الهاشميين ورأس العلويين .وقد كتب عن عبد الله رجل من أحدق الناس سبر الأغوار كتب عنه لورنس وهو في الخامسة والثلاثين "انه يترأى أصغر من سنه قصير القامة مدمج البنية ويبدو عليه في قوة الجواد المتين بعينين عسليتين مرحتين ووجه مستدير وناعم وشفتين ممتلئتين وانف قويم ولحية تميل الى السواد مع الاحمرار أما مسلكه فهو يتعمد الصراحة واللطف ولا يلتزم الكلفة الرسمية على الاطلاق بل يمزح مع البدو كأنه شيخ من شيوخهم وهو في المواقف الخطيرة يزن كلماته وزناً دقيقاً ومتكلم حصيف التعبير وهو في رأي العرب سياسي بارع وحاكم بعيد المرمى وأحسبه أقرب الى هذا.تلك صورته في رأي لورنس ومن الواجب ان تحيط الصورة بجوها الذي لازمها ولم يزل محيطاً بها من أولها الى منتهاها :نشأة بدوية وتربية تركية وآمال في مشتجر النزاع بين الآل والاخوة أولاً وبين القبائل والامم العربية ثانياً وبين الدول الاوروبية والامريكية ثالثاً وقدرة تملك التقدم والتأخر في جانب الطريق الى حين أما ان بلغت الطريق مفرقها فلا تملك بعد ذلك الا ان تلوذ بأبتسامة تخرجها من هذه الجهامة فإن لم تكن الى ذروة الكرامة فإلى مطمأن السلامة ويفعل الله بعد ذلك ما يريد.
وكان رحمه الله كان يؤكد اكثر مما يستطيع ومما يريد فما الذي أراد وما الذي خذله بالتأكيد؟.
صفوة ما يقال عن الرجل أن آماله أكبر من طاقته ومن وسائله وانه نفع وأضر بما أضطر اليه ولم يكن نفعه ولا ضرره وفي اكثر الاحوال بأختياره وخلاصة القول في عبد الله بن الحسين انه نفع وأضر على اضطرار وإننا اذا بحثنا عن اختياره ورغبته فهما بالاغلب يوافقان الضرورة التي سيق اليها فعنده أسبابه لمخافة الامم العربية باختياره وعنده اسباب لمخالفة اسرائيل باختياره وهو مخلص لنياته حين يجري مع السياسة الانجليزية فلا يتخلى عنه الاخلاص الا حين تتشعب الطريقان فيذعن للقوة التي لا يقوى معها على شيء غير الاذعان .
غفر الله له وأحسن اليه.
كان الملك عبد الله الاول طيب الله ثراه رجل حكم وسياسة وشاعراً وخطيباً وواسع الاطلاع بفنون الادب والادباء والشعراء ومحباً لمجالسهم وكان الى جانب ذلك ناقداًذا نظرة ثاقبة بهذه الصفات البسيطة استطاع الملك الانسان ان يستقطب حوله الكثير من الأدباء والشعراء الذي كان يسر بحضورهم ومحادثتهم ومجالستهم وقد ساعد الملك عبد الله على تشجيع الكثير من المواهب الأدبية التي أدى الى بزوغ شخصيات أدبية اردنية والكثير منهم وذلك كان له الآثر الكبير في تغذية الحركة الأدبية والفكرية وسارت مسيرتها الى يومنا هذا في عهد صاحب الجلالة الملك عبد الله الثاني بن الحسين حفظه الله ورعاه.