لا استطيع ان أخفي سعادتي حين اسمع عن مبادرة - اية مبادرة - لعمل الخير، في المسجد الذي أصلي فيه - مثلا - استطاع المصلون ان يجمعوا في بضعة شهور اكثر من مئتي الف دينار - لاكمال مشروع البناء، وحين كشف الامام عن «سر» هذا الاقبال على التبرع، اختار للمشروع عنوان «برّ الوالدين» في اشارة واضحة الى هذه القيمة الفاضلة التي دفعت الناس الى بذل اموالهم اعترافاَ بفضل آبائهم عليهم، واحساناً لهم، بمعنى ان الاستثمار في «برّ الوالدين» كان أجدى بكثير من الاستثمار في أي تجارة اخرى.
في تجربة جمعية العفاف - ايضاَ - كان الاقبال من الموسرين والخيرين على مساعدة الشباب على الزواج نموذجاً آخر للاستثمار بالقيمة السامية، وفي الجمعيات التي تعنى بتربية الايتام وايواء المسنين، والانفاق على الفقراء والمحتاجين، جسد الاستثمار في هذه القيم صوراً تبعث - حقيقة - على السعادة، وفي مجتمعنا ايضاً نكتشف بأن عمل الخير يمضي بصمت في طريق طويل، لا تكاد تعرفه الا حين تتغلغل فيه ان تصادفك احد نماذجه.
اكثر ما اسعدني - ايضاً - صورة جنودنا البواسل وهم يقدمون العون لاشقائهم في غزة او لاخوانهم في هاييتي ودارفور، او في غيره من بقاع العالم المنكوبة، وهي بالفعل صور مشرفة يجب ان نعتز بها ونشهرها لكي نؤكد على حقيقة عدم انقطاع الخير في الارض، وعلى ان منطق الاخوة اسمى واشمل من منطق المواطنة، وعلى أن هذه الاخوة تمتد من دائرة الوطن والملة الواحدة الى الدائرة الانسانية الاوسع، كما يذكرنا ديننا دائماً بذلك.
أجزم بأن معظم المشكلات التي نعاني منها، على صعيد الفساد وأنواعه، او على صعيد العنف الاجتماعي وأشكاله، او على صعيد الجرائم وما يترتب عليها من غياب للامن، والاستقرار، او فيما يتعلق بالقسوة التي اتسمت به سلوكياتنا مع بعضنا في اطار الاسرة او المجتمع، او فيما يخص الاحساس بالفقر والعوز، او شيوع الرذائل او تصاعد معدلات العزوف عن الزواج والطلاق،، او غيرها من المشكلات التي تتعلق بالصراعات السياسية والاقتصادية وأجزم بأن سببها الابرز هو غياب الاستثمار في القيم، وتراجع الاعتماد على الوازع الديني والاخلاقي، ولو انفقنا عشرة بالمئة مما ننفقه على مجالات الاستثمار الاردني في التجارة او في الطرق او في اللعب او في السفريات والمؤتمرات، لو انفقناه على الاستثمار في القيم واحياء منظوماتها الفاضلة (خذ مثلا قيمة النظافة بأنواعها) لكنا بألف خير، ولما احتجنا الى محاكم وسجون ومعونات وطنية، ولما دفعنا تكاليف باهظة لتعويض فساد القيم، بكل ما يترتب على هذا الفساد من غياب للأمن والاستقرار، وللخوف والانتقام، ومن خسارات فادحة ندفعها من رصيد شبابنا وتعب أعمارنا واوضاعنا الصعبة.
لا تسألني: كيف نستثمر في القيم؟ يكفي ان يتحول كل واحد منا الى مشروع لعمل الخير، والعناوين كثيرة: الوفاء مثلا للوالدين، الاحسان لليتامى وكبار السن، تزويج الشباب غير القادرين، النظافة والاستقامة والنزاهة في العمل، الاخلاص، العناية بالمرضى والفقراء.. وغيرها من العناوين التي يمكن ان تخطر على بالك.. جرّب ان تستثمر بها وستجد الاف المتطوعين الذين سيصطفون معك في الطابور.. فأهل «الخير» في بلادنا، رغم كل ما ترى من صور الفساد، اكثر مما تتوقع.
دعونا نجرب بناء مدن او قرى او مناطق مؤهلة للاستثمار في القيم، كل القيم، وسترون كيف يتحول مجتمعنا من مجتمع مآسٍ الى مجتمع نابض بالحياة.. وبالبسمة والحب ايضاً.
الدستور