لا غولدستون, ولا تقريره, ولا ما وقع, في جنيف, في اجتماع مجلس حقوق الإنسان التابع للأمم المتحدة, كان من القضايا مدار الخلاف بين طرفي, أو أطراف, النزاع الفلسطيني, الذي هو الآن, وعلى ما يظهر, النزاع الأول, وبلا منازع, للفلسطينيين, أي لمن يتولون قيادتهم ضدهم, وضد قضيتهم القومية.
لسبب منطقي صرف لم يكن كذلك, فلم يدرج, ولم يدرجه الوسيط المصري, الذي يشعر الآن بالمهانة, في عداد القضايا موضع الخلاف, والتي حفظناها جميعا عن ظهر قلب, حتى غدا الإتيان على ذكرها, أو تعدادها, أقرب إلى "قاء" منه إلى "قال".
كل شيء, أي كل خلاف, سوي, على ما زعموا, أطرافا ووسيطا, ولم يبقَ إلا التوقيع, في احتفال, أو عرس من نمط أعراسنا العربية الانتخابية.
وانتظرنا مع المنتظرين, أي مع الملايين من الفلسطينيين والعرب, أن يتصافحوا ويتعانقوا ويوقعوا.. ولو بعيدا عن الحرم المكي, وإذا بالقاضي غولدستون يقذف هذا الصرح العظيم.. صرح المصالحة, الذي بدا شبيها بهرم "خوفو", منعة, بحجر, فيتداعى وينهار, وكأنه من نسج العنكبوت.
لقد حيرني هذا الأمر, وأدهشني, أكثر بكثير من غولدستون وتقريره, ومن اجتماع المهزلة والمأساة في اجتماع جنيف, فلو كانت المصالحة مصالحة لأظهرت وأكدت وجودها وقوتها وحيويتها وأهميتها وضرورتها في أول اختبار لها, أي اختبار غولدستون, فالمصالحة لا أهمية لها, ولا قيمة, ولا وزن, إن هي سوت خلاف الماضي, من غير أن تُضمَّن ما يمكِّنها من تسوية خلاف المستقبل, ومن أن تدرأ عن ذوي المصلحة الحقيقية في بقائها كل خلاف يقع, أو يمكن أن يقع, بعد التوقيع.
ليس من عقل, أو عاقل, يستطيع فهم وتفسير وتعليل هذا التناقض الذي رأينا, فإن ثانية سياسية واحدة كانت كل الفاصل الزمني بين مشهدين: مشهد جلوس المتنازعين المتصالحين إلى المائدة المصرية ليأكلوا من طيبات ما رزقتهم المصالحة وطباخها المصري, ومشهد أن يرموا بعضهم بعضا بالصحون والملاعق والشوك والسكاكين.. وبالطبيخ!
من رآهم في مشهدهم الثاني لا يمكن أن يصدِّق أن هؤلاء كانوا على بعد شبر من أن يصلحوا حالهم, ويتصالحوا, ويصلحوا, بالتالي, حال شعبهم وقضيته القومية, التي تتحداهم جميعا أن يشبهوها, وزنا, وعظمة, وروحا.
إنها ثلاثة "انتصارات" فلسطينية, لن تدخل التاريخ إلا بصفة كونها ثلاث كوارث جديدة حلت بالشعب الفلسطيني وقضيته القومية; الأول (أي "الانتصار" الفلسطيني الأول) هو قيام السلطة الفلسطينية في الضفة الغربية وقطاع غزة, والثاني, هو انتخابات المجلس التشريعي الفلسطيني, مع ما تمخضت عنه, والثالث, هو انتصار غولدستون للضحية الفلسطينية في قطاع غزة.
لو لم تقم السلطة هناك لما حلت بالشعب الفلسطيني وقضيته القومية الكارثة الجديدة الأولى; ولو لم تُجرَ الانتخابات لما وقعت الكارثة الثانية; ولو لم يُنعم علينا القاضي غولدستون بتقريره لما وقعت الكارثة التي وقعت الآن.
وإذا كانت الأمور تقاس بنتائجها فإن جهود الوسيط وجهود القاضي تمخضت (بفضل قادة وقيادات فلسطينية درسوا أصول القيادة في مدرستي توتسي وهوتو) عن موت العزيزين معا: المصالحة والتقرير.
لو كان للروح القيادية الفلسطينية الفلسطينية وجودا وغلبة لأنتجت لها سريعا عقلا سياسيا يشبهها, ولتوفر القادة جميعا على اجتراح "معجزة" إجابة السؤال الآتي: كيف نتخذ من المصالحة (غير القابلة للتأجيل ساعة واحدة) طريقا ومدخلا إلى معالجة وحل أزمة غولدستون?
"حماس" لم تكن مدعوة إلى أن تهادن رئيس السلطة الفلسطينية محمود عباس في أمر ما وقع في جنيف, فلو فعلت هذا لقلنا إن الشعب الفلسطيني أصبح شعبا بلا معارضة, وبئس حال شعب بقيت له سلطة, ولم يبقَ لديه من المعارضة إلا ما يؤكد أنه في أمس الحاجة إلى وجودها!
ومشعل لم يكن مدعوا إلى أن يصافح عباس, في القاهرة, لـ "يصفح", في اللحظة عينها, عما يعده ذنبا ارتكبه رئيس السلطة الفلسطينية.
أزمة غولدستون إنما أقامت الدليل على أن الفلسطينيين بحاجة إلى معارضة تفهم ما وقع في جنيف على أنه (ولو جزئيا) إحدى الثمرات المرة لغياب المصالحة الفلسطينيية مع الحلول التي يُفترض فيها أن تأتي بها, وأن تترجمها, من ثم, بتغيير للواقع الذي أنتج وعمق كل هذا النزاع.
كان ينبغي لهم فهم أزمة غولدستون على أنها دعوة لهم إلى الإسراع في توقيع اتفاق المصالحة, وإلى الإسراع, أيضا, في استخراج هيئات قيادية فلسطينية جديدة من المصالحة, اتفاقا وتنفيذا; فإذا وفَّقهم العلي القدير في اجتراح هذه المعجزة, التي لولا استشراء العجز الفلسطيني لما نظرنا إلى الأمر على أنه معجزة, ألَّفوا, عندئذ, لجنة للتحقيق في ما حدث في جنيف; وليس من تحقيق جيد ومجد إذا لم يتوصل القائمون به إلى الحقيقة.. حقيقة ما حدث هناك.
في هذا الملحق الجديد للنزاع, أي ما وقع في جنيف, قال الطرف المدَّعى عليه إنه توافق مع عرب وعجم وبربر.. على التأجيل حتى آذار المقبل, توصلا إلى حشد ما يكفي من القوى والأصوات لجعل مجلس حقوق الإنسان مُقِرَّا للتقرير, موِافقا عليه; أما الطرف المدَّعي فقال هذا تزوير للحقيقة, فالتقرير استجمع من الأصوات المؤيدة له ما يفي بالغرض.
إننا يكفي أن نسأل "أي الزعمين هو الصادق?" حتى تتأكد لدينا أهمية وضرورة تأليف لجنة للتحقيق, على أن تؤلفها الهيئة القيادية الفلسطينية الجديدة المنبثقة من المصالحة, اتفاقا وتنفيذا. ويكفي أن تتأكد لدينا أهمية وضرورة ذلك حتى تتأكد لدينا, في الوقت نفسه, أهمية وضرورة أن تتحقق المصالحة أولا.
وفي موازاة ذلك, يستطيع المشككون والمعترضون والمتهِمون.. نشر أسماء الدول الأعضاء في المجلس المؤيدة, على ما يقولون, للتقرير, وبحثه, والنظر فيه, وتبنيه.
ليضربوا صفحا عن الرئيس عباس, وعن المندوب الفلسطيني, الذي في منزلة العضو المراقب, وليتوجهوا إلى تلك الدول الأعضاء طالبين منها أن تثبت بالقول والفعل أنها للتقرير غالبية صوتية مؤيدة, فالرئيس عباس ليس بنفوذ الرئيس أوباما, أو أشباهه, حتى يصورونه على أنه الآمر, الذي يكاد أمره أن يكون ما بين الكاف والنون, ولو ضِمن حيز مجلس حقوق الإنسان!
بالله عليكم هاتوني باسم دولة واحدة (من الدول الأعضاء في المجلس) قالت, أو استطاعت أن تقول, "كنت جزءا من تلك الغالبية المؤيدة, فجاءني المندوب الفلسطيني (المراقب) ليخبرني أن عباس يطلب مني التأجيل, فلبيت له طلبه, وامتثلت"!
لقد قالوا في حجتهم الكبرى: عباس, وعلى مضض, أو ذرا للرماد في العيون, قرر تأليف لجنة للتحقيق, وكأن الفاعل مجهول.
وأقول: لقد قالوا ذلك, وقالوا به, وكأن لديهم ما يسمح لهم بإقناع أنفسهم, وغيرهم, بأن تلك الغالبية حقيقة لا ريب فيها.
حقِّقوا في هذا الأمر فحسب, ولتعلنوا, من ثم, على الملأ, أسماء تلك الدول الأعضاء التي كانت, وما زالت, مستعدة للتصويت, وبما يجعل تبني المجلس للتقرير حقيقة واقعة.
على أن كل هذا الذي قلت لا ينفي, وإنما يؤكد, الحاجة إلى جعل المصالحة طريقا إلى معالجة وحل هذا النزاع الجديد الطارئ, وغيره مستقبلا, فالمصالحة, على فهمنا السياسي لا العشائري لها, ليست إلغاء للخلاف, بل تسليحا له بوسائل وأدوات وطرائق جديدة جيدة لإدارته ومعالجته وتسويته.
jawad.bashiti@alarabalyawm.net
العرب اليوم