أقعد وراه وإنشد عن خاله ! .
شحاده أبو بقر
02-07-2019 11:40 PM
أيام زمان وهي الأيام الجميلة التي يصعب أن تعود ، كانت لدينا في الأردن عادة جليلة في ولائمنا خلال أفراحنا وأتراحنا ، كانت الظروف المادية للناس بسيطة وشحيحة لكنهم كانوا يتحدونها بالبساطة والقناعة والتكافل الفطري الحقيقي لا الزائف ، فإذا ما أقيمت وليمة لسبب ما ، كان المضيف يقدم عددا محدودا من المناسف لضيوفه الكثر ، ولهذا كان الضيوف يتناولون ما يسر الله حسب ترتيب محدد يسمح لكبار السن والوجهاء بتناول الطعام أولا وهو ما يسمى الطورة الأولى ، وبالطبع هؤلاء يدركون أن هناك جمعا آخر سيتناول الطعام من بعدهم ، ولذلك يأخذون نصيبهم مما تيسر تاركين طعاما يكفي لمن بعدهم ٠
ينهض رجال الطورة الأولى عن الطعام ليأتي دور الطورة الثانية ، وهكذا إلى الطورة الثالثة أو حتى الرابعة حيث الغلمان والأطفال صغار السن ، وكلهم يجدون طعاما كافيا لهم جميعا ، فالله جل في علاه يبارك زادهم من فضله .
في زماننا الراهن وعلى قسوته ، صرنا كلنا طورة أولى ، كبارا صغارا ، وجهاء وغير وجهاء ، ومن لا يجد مكانا للإصطفاف حول المنسف من طورته الأولى يغضب ويغادر المكان معتبرا أن ذلك إنتقاصا من قدره .
هذا التطور السلبي غير المحبب ينسحب اليوم على كل أمر في حياتنا ، والوحيدون الذين قد يقبلون بأن لا يكون نصيبهم في الطورة الأولى هم دنوة المعزب أو المضيف ولكن حتى على مضض ، ومع ذلك فهم يرضون بأن تكون الطورة الأخيرة أي الثانية في عرف اليوم من نصيبهم ، فالمهم عندهم هو بياض وجه قريبهم المعزب مع ضيوفه وضيوفهم ، وهذا بالطبع هو سلوك أقاربه الأنقياء المريدين ، أما من كانوا غير ذلك ، فيسعدهم عدم بياض وجهه وقد يسارعون إلى تناول الطعام في الطورة الأولى مع الضيوف مباشرة .
لو سحبنا هذا الأمر على السياسات العامة في بلدنا ، لوجدنا أننا بصدد عرف جديد فيه طورة أولى متكررة لها كل الزاد ولا شأن لها بغيرها ، فقد ولى زمان ( أقعد وراه وإنشد عن خاله ) ، وهو زمن كان ربع الطورة الأولى يؤثرون على أنفسهم فلا يترددون في مناولة الجالسين خلفهم قطعا من اللحم إكراما لهم ، لا بل ويبادر بعضهم إلى إخفاء قطع لحم تحت طبقة الأرز كي يجد أهل الطورات اللاحقة لحما يتناولونه بعدهم .
بصراحة أكثر لقد فقدنا شيمة الإيثار التي كانت منبع فخر وتفاخر في حياتنا ، وحلت مكانها مثلبة الإستئثار التي يعتقد مزاولوها أن كل شيء لهم وحدهم دون سواهم ، وليذهب أقرانهم في الوطن إلى حيث ألقت رحلها ، ولا حول ولا قوة إلا بالله ٠
هذا حال مائل ، وإن إستفحل فهو ينذر بما هو أسوأ لا قدر الله ، فلا بد من أنزال الناس منازلهم ، ولا بد من إدراك أن الناس كل الناس شركاء على الشيوع في أوطانهم ، ولقد بتنا بمسيس حاجة ألى العودة إلى ثقافة ، أقعد وراه وانشد عن خاله ، فهي أسمى من سائر ثقافات اليوم المستوردة والمستهجنة والغريبة عنا ، وهي أكثر رقيا وعفة ومصداقية من سواها ، سواء أعجب ذلك دعاة الحداثة أم لم يعجب . الله الذي لا إله سواه من وراء قصدي .