سيدتي: تقبّلي اعتذاري، يؤسفني إبلاغك بأنّه قد تمّ الاستغناءُ عن خدماتكِ في هذا المستشفى.
- ماذا؟! أَبَعد عشرين عاماً من الخدمة المُخلصة في هذا الصرح الطبي تُكافئوني بهكذا قرار؟
- أكرّر أسفي منكِ فقد كنتِ نِعم المُعين لنا كممرضة أولى في قسم عمليات الدماغ والأعصاب طوال السنوات العشر الأخيرة من خدمتك الطويلة. لكن، هذا هو قرار لجنة التحقيق. علينا أن نحترم قرارها مثلما احترمنا سمعة هذه المؤسسة الطبية العريقة في أمريكا طيلة خدمتنا فيها، ومثلما يجب علينا أنْ نحترم مشاعر الآخرين، أمريكان أم عرب أو غير ذلك!
"إنسانيّة الإنسان" هو الوَسمُ الذي عَنْوَنَ به "نبيل الطويل" نسختهُ العربية التي ترجمها عن الأصل الغربي لكتاب So Human an Animal"" لمُؤلّفِهِ "رينيه دوبو" الحاصل على جائزة نوبل في العلوم عام 1976. تعرّفتُ على الكتاب عام 1989 حينما كنت طالباً في مرحلة البكالوريوس بأمّ الجامعات الأردنية خلال مساق "الفيزياء والمجتمع"، وقتذاك وجّهنا الدكتور يوسف محمود إلى ضرورة دراسة وتلخيص ذلك الكتاب كأحد معايير التقويم الغريبة التي انتهجها خِرِّيجُ "MIT"، المعهد الذي يتشبّثُ به المركزُ الأول في قائمة أفضل جامعات الغرب والعالَم على الإطلاق منذ عديد السنين. حصل ذلك في الزمن الجميل الذي كانت فيه الجامعة الأردنية، منارة متكاملة تمنح الطالب علماً مقترناً ببناء الشخصية الجامعة، وكان الأساتذة عمالقة.
لا يعنيني هذا الكتاب الذي قَدَّمَ نقداً علمياً للحضارة الغربية المادية بقدر ما أستشهدُ به هنا على موقف حقيقي وواقعي نابعٍ من لُبّ تلك الحضارة الغربية، كان قد حصل مع وَلَدِي هناك قبل أسابيع قليلة ضمن زيارته الأولى لمعقل حضارتهم.
يقول الأب: لقد بَقِيَتْ الفكرةُ عن الغرب في عقلي وعاطفتي مُجرّد نظرية مُترفة ومنبوذة. ربما ساهم ذلك الكتاب بما احتواه من نقدٍ لاذع لحضارتهم المادية في بناء حاجز سلبي داخل نفسي زادني منها نفوراً، ناهيك بمشاعرنا العروبية والإسلامية الميّالة للمظلومية التي لحقت بنا جرّاء أفعال الغرب، وشعورنا القهري بالإجحاف الذي أصابنا في ظل توالي نكساتنا والنكبات، وما تلاها من انتزاع الأرض والمقدسات. كل ذلك ساهم في اتساع الفجوة في ذاتي بين الحضارتين، وتألّبتْ مشاعري إلى أن وصلتْ لمرحلة الصدام بين الحضارات التي عبّر عنها صامويل هنتنغتون. وتنفيساً لذاك الضَّيم الذي لحق بنا أخذتُ في حينها أُهرولُ مندفعاً بأوزار عاطفتي في شوارع جامعتي الحبيبة، لألتحق دائماً بالصف الأوّل في كل مسيرة غاضبة يُسيّرها النشطاء، هاتفاً جوفي قبل لساني وبأعلى صوتي: "أمريكا هِيَّا هِيَّا... أمريكا رأس الحَيَّةْ".
يقول الابن: حصل ذلك في أمريكا، منذ أسابيع فقط. حينما يوافِقُ جرّاحُ أعصاب أمريكي شهير على إدخالي ضمن فريقِهِ الطبي الذي سيجري جراحة مدّتها سبع ساعات، نَلِجُ خلالها إلى دماغ مُتورّمة لمريض يكافح من أجل التشبّث بالحياة والبقاء على هذه الأرض. وافق وهو لم يَرَنِي من قبل وأنا المتدرّب القادم من بلاد العرب أوطاني، كل ما في الأمر أنّي اتَّكَأْتُ على توصية إيجابية قدّمها طبيب كبير يُزامل ذلك الجرّاح في المستشفى نفسها.
تتكلّلُ العملية بالنجاح، وفي فترة الاستراحة والتقييم يجتمع الرئيس بفريقه الطبي والتمريضي ليحتفلوا معاً بفرحة الحياة التي كُتِبَتْ لمريضهم، ويتبادلون بعض النُّكات...
ولأجل اجتذابي للجو وأنا العضو الغريب في الفريق، يقوم الرئيس الظريف وبأسلوبهِ المَرِح بسؤالي عن رأيي فيما شاهدتُ من تكنولوجيا مُبهرة ساهمتْ في شقّ الطريق بدقّة إلى أعماق ذاك الدماغ البشري العجيب. فأُجيبُ واصفاً إياهم وأدواتهم بما يستحقّون من براعة وتطوّر. وفي غمرة ذاك الجو الأليف تقوم إحدى الممرّضات بإكمال الحديث الباسم، وفي سبيل إدماجي أكثر بحالة البهجة وإغناءً لذات الهدف، فتستدعي أسرع صورة في ذاكرتها عن العرب، ربما لم تكن المسكينة مُوفّقة حينما استعانتْ بمشهد قديم ساهم في رسمه إعلامهم عنّا، فقالت:
- هاه! كيف رأيت العمل معنا يا "راكب الإبل"؟
- مُبهر يا "سِيسْتَر". أجبتُها بكل ثقة وسرور. لم أشعر حقّاً بأيّة مُشكلة ولا أنا قد توجّستُ سوءاً من ذاك السؤال.
انتهت جلستنا، وَقُبيل الغروب وَدَّعْنَا بعضنا البعض ثمّ غادرنا المستشفى، ننشد الراحة في بيوتنا.
في الصباح، وإذ بالدنيا تقوم ولا تقعد في المستشفى العام. الهواتف تُقلقُ راحتك.
- أين أنت؟ أسرِع، لجان التحقيق تعمل منذ الصباح، والمديرة تسأل عنك. أحقّاً أنّك قد تعرضتَ لإساءة عنصريّة؟
- ماذا تقول؟ إساءة عنصرية!
- نعم، فقد سمعتُ أنّ إحداهنّ قد وَصَفَتْكَ براكبِ الإِبِل.
- ههههه .. يا صديقي، ليس في الأمر إساءة، وإنْ كان قد قيل ما قيل فقد جاء على سبيل المزاح. ثمّ إنّي قادم من مجتمع يبلغ فيه سعر النّاقة السَّبُوق أضعاف أثمن سيارة عندكم. نحن ننتمي لمجتمع يفخر بالإبل، الإبل التي امتدح الله عجائب خلقهِ لها في قرآننا الكريم. ثمّ مهلاً، فأنا لم أَشْكُ أحداً أبداً!
- علمتُ أنّ فريقاً من إدارة المستشفى سيزورك في جناح الأطباء المتدرّبين، وسوف يُقَدَّمُ لك اعتذاراً رسميّاً عن تلك السَّقطة اللغوية التي وقع بها البعض في جلستكم.
أَسِفتُ كثيراً حينما عرفتُ أنّ التحقيق قد طال الجرّاح الشهير لاستطلاع وجهة نظره، في الوقت الذي خضعتْ فيه الممرضة التي أوصلتْ الملاحظة لإدارة المشفى وتلك التي تلفّظتْ بالعبارة الجارحة لجلسات تحقيق دقيقة، نجم عنها الاستغناء عن خدمات الأخيرة. لم تُفلحْ محاولاتي لثني الإدارة عن قرارها الذي اعتبرتُهُ مُجحفاً بحق الممرضة. يبدو أنّ العواطف لا سبيل لها هنا. أكملتُ ما تبقّى لي من فترة تدريب وأنا أتنعّمُ بذات الأجواء الإيجابية التي كانت تسود في فترة ما قبل الحادثة.
أبوك يا ولدي غير قادرٍ بعد اليوم ولا معنيٍّ أبداً بإقناعك أنّ أمريكا التي أنصفتْ مشاعركَ بعد أنْ تَبَلَّدَتْ في أوطاننا، هي ذاتها أمريكا التي كان أبوك "الحاجّ" يرجمها في مسيرات جامعته الأردنية العروبيّة بأقذع الألفاظ. اذهبْ يا ولدي هناك، اذهبْ وعِشْ في مجتمعهم الذي سيمنحك العلم الحقيقي الممزوج بالحرية والاحترام. اذهبْ فأربعون بالمئة من أبناء وطنك يطمحون للهجرة ويحلمون بها.
اذهب يا ولدي وابتعد عمّن يتجاوزك برعونة في الطرقات، وفي طابور المخبز وطابور الحافلات، وحتى في طابور الصعود إلى الطائرات، وإذا ما أردتَ يوماً أنْ تَحتَجّ على سلوك فجّ صادر عن أيٍّ من أولئك اللا منضبطين، فسوف تسمع الأسطوانة المشروخة التي تعلّموها مُذ كانوا في المدارس، مع اختلاف نبرات أصواتهم: "هل تعرف مع مَنْ تتكلّم أنت يا هذا؟"
جميعنا في هذا الوطن يا ولدي عطشى سُلطة وهمية، وجوعى استبداد أجوف، وإلى أنْ نستعيد حقيقة أوزاننا بين الأمم هاجر يا ولدي هناك. هاجر عند الفرنجة الذين أشعروك بإنسانية الإنسان، أَحِبَّهُم ودَع أبيك محكوماً بالماضي، اتْرُكْ أبيك وجيل أبيك يشتمهم مُردداً مقهوراً:
تبّاً لكم يا الأمريكان، يا مَنْ أتْعَبتُم عروبتنا!