بالرغم من التصريحات الرسمية التي تؤشر الى انخفاض نسبة المركبات المساهمة بالحوادث وكذلك أعداد الحوادث، وبالرغم من الجهود التشاركية الرسمية والأهلية المبذولة والتي تبذل منذ توجيهات جلالة الملك ومتابعاته الحثيثة للحكومة في العام المنصرم لإيجاد حلول عملية لمشاكل المرور ووضعها على سلّم الأولويات وجعلها همّا وطنيا، الاّ أن حوادث المرور من تدهور ودهس وصدم وانقلاب وغيرها باتت تؤرق الجميع لتصبح إحدى المشاكل اليومية، فهي تؤرق الدولة والمجتمع والأسر والمؤسسات الرسمية ومنظمات المجتمع المدني والأفراد على السواء بغض النظر عن دورهم سواء كانوا سائقين أو مشاة أو حتى من يجلسون في منازلهم. ولعل تفاقم هذه الظاهرة في الآونة الأخيرة ينم عن عدم انسجام بين مهارة وفن السياقة من جهة والأخلاقيات والقوانين الضابطة لها من جهة أخرى. فحوادث المرور أصبحت أكثر الأسباب لحدوث الوفيات والإعاقات للفئة العمرية دون 35 عاما، وحوادث المرور أيضا تعد في المرتبة الثانية كمسبب للوفيات بعد أمراض القلب والجلطات وأمراض الجهاز التنفسي.
ولعل إطلالة سريعة على حجم تفاقم هذه الظاهرة في الأردن يعزز لدى القيادة وأصحاب القرار والمجتمع برمته ضرورة اتخاذ إجراءات رادعة للحد من هذه الظاهرة وعواقبها الوخيمة على الجميع. ففي الأردن اليوم ما يربو عن تسعمائة ألف مركبة (ويصل الرقم الى حوالي مليون ونصف سيارة في الصيف) -أي مركبة لكل حوالي ستة الى سبعة أشخاص وربما بالمعدل مركبة لكل أسرة- ورغم أن بعض الأسر لديها من ثلاث إلى أربع سيارات أو أكثر. وفي الأردن تعتبر حوادث المرور السبب الأول للوفيات وأن العنصر البشري أي السائق يتحمل المسؤولية العظمى للحوادث حيث تصل نسبة مساهمته في الحادث حوالي 85%، وبينما المركبة والطريق والظروف البيئية والجوية لا تتعدى نسبتها مجتمعة عن 15% من نسبة المساهمة في أسباب الحوادث المرورية، أي أقل بكثير من السائق. وفي الأردن سجل معدّل السنوات الخمس الأخيرة حوالي 12-13 وفاة لكل عشرة آلاف مركبة، وحوالي 300 جريح لكل عشرة آلاف مركبة، وحوالي 1100 حادث لكل عشرة آلاف مركبة، وهذه أرقام عالية نسبيا إذا ما قورنت في الدول المتقدمة مثل النرويج والسويد التي وضعت رؤية مرورية للقضاء على حوادث المرور وليس الحد منها ووضعت رؤية صفرا أو لا للوفيات الناتجة عن حوادث المرور! وهذه الأرقام بحد ذاتها تؤشر إلى أننا نتجه صوب كارثة إنسانية أخطر من الإرهاب والبراكين والزلازل والحروب! وللأسف فان حوادث المرور باتت تشكل حربا غير معلنة وتقتل وتزهق أرواح الأبرياء باطراد!
وهذا ما حدا برأس الدولة الأردنية جلالة الملك المعزز عبدالله الثاني بن الحسين المعظم لأن يوجّه رسالة للحكومة في العام الماضي لوضع ضوابط للسيطرة على الحوادث المرورية من الجوانب والمفاصل كافة وفق منظومة متكاملة بدءا من تأهيل وتدريب السواقين ومرورا بضبط سلوكيات وأخلاقيات السائقين والمشاة والتصميم الهندسي للطرق والإرشادات المرورية ووصولا إلى تغيير ثقافة وممارسات السير والمرور.
وتظهر الأرقام والمؤشرات والاحصائيات المرورية أن فئة الشباب واليافعين هم الأكثر عرضة للحوادث المرورية ويرجع ذلك إلى أسباب عدة منها على سبيل المثال لا الحصر غياب دور الأسرة والمدرسة في التربية والثقافة والوعي المروري لدى الشباب، وقلة الأرصفة وعدم تأثيث الطرق بوسائل السلامة المرورية الكافية مما يسبب اختلاط المشاة مع المركبات في الشوارع وتعرضهم للدهس وخصوصا في الشوارع المكتظة داخل المدن، ومن الأسباب أيضا عدم التزام بعض السائقين بالقوانين والأنظمة وعدم احترام المشاة وحقهم في استخدام الطريق إبان العبور من ممرات المشاة، وعدم وجود ممرات للمشاة أحيانا وربما عدم وجود ثقافة استخدام ممرات المشاة، ووقوع بعض المدارس على الطرق والشوارع الرئيسية، وقلة الأماكن الخاصة بالتنزه والحدائق وأماكن الترفيه. وهذا أيضا ما يعزز ضرورة التركيز على فئة الشباب في خلق حالة من الوعي المروري خصوصا وأن فئة (18-30) عاما من الشباب ممن يحق لهم السوقة بعد أخذ الرخصة القانونية يشكلون حوالي 25% من المجتمع، مما يؤشر بأن هذه الفئة هي الضحية وهي أيضا المسبب في الحوادث المرورية.
إننا بحاجة ماسّة اليوم وقبل الغد لتربية السلوك المروري لأجل التعرف على قواعد السلامة المرورية والسلامة العامة على الطرقات، ولمعرفة أهمية قوانين وأنظمة المرور على الطرقات، ولمعرفة آداب المرور لتجنب الحوادث، ولمعرفة التعامل مع المركبات في جميع الأحوال والظروف الجوية والبيئات المختلفة، ولمعرفة وتقدير ظروف الآخرين من سائقين ومشاة، ولمعرفة الاتجاهات المرورية الصحيحة ليشكل كل ذلك سلوكا رشيدا وقيمة إيجابية لدى الناشئة والشباب.
وتشكل منظومة الأسرة ووسائل الإعلام والمناهج التربوية والتطبيق الأمثل لقوانين السير أساسيات تربوية وقيمية وتوعوية لأجل تجنب الناشئة والشباب لحوادث المرور سواء كمسببين في الحوادث أو أن تقع عليهم الحوادث المرورية. فالمناهج المدرسية والجامعية بحاجة إلى مادة علمية لإظهار إرشادات المرور الآمن ونظرياتها وقواعدها وطرق السير على الطرقات وكيف تكون بطرق سليمة سواء للسائقين أو المشاة، والأسرة ربما تكون الركيزة الأساس في إعطاء الجرعة التوعوية المثلى للتربية المرورية لتعزيز الخلق والذوق والأدب والقيمة للالتزام بقواعد المرور، ودور وسائل الإعلام كبير أيضا في تعزيز الفكر والسلوك والممارسة وإظهار الممارسات الخطيرة على الشباب أو الأطفال.
ولعل المساهمة في عمل حراك مجتمعي حول الموضوع من خلال الندوات والورش والمحاضرات التوعوية الحوارية يثري الوعي العام حول مشاكل المرور، ولربما أيضا من خلال خلق ثقافة مجتمعية نابذة للقبول بإسقاط حقوق الناس الذين وقع عليهم الحادث وجعل ثقافة القانون هي الأصل في هذا المجال، وان كنا نعتز بأعرافنا العشائرية وإصلاح ذات البين إلا أننا أيضا نؤكد هنا أن الإصلاح يكون منقوصا في حال وقوع مغبّة بالإكراه أو بالاستحياء على الآخرين، لأن هذا النوع من الصلح يعطي الضوء الأخضر للغير للتمادي في الحوادث المرورية لأن الثمن بخس ولربما يكون احتساء فنجان قهوة أحيانا!
كما أن التدريب العملي على التعامل مع البيئة المرورية وممرات المشاة وزيادة الجرعة المرورية والكفاية في المفاهيم المرورية في المناهج والكتب، والندوات المجتمعية، وتفعيل دور الإعلام المرئي والمسموع والمقروء والتكنولوجي، واستخدام وسائل السلامة المرورية لدى الأطفال والشباب كحزام الأمان، ومعرفة خطورة الجلوس في المقعد الأمامي بالنسبة للأطفال، وتفعيل حملات التوعية المرورية، وإناطة دور مهم للأسرة، وتفعيل دور الجمعيات والأندية التطوعية ومراكز الشباب لتأهيل الشباب، وتفعيل قانون سير عصري ليس مبني على تغليظ العقوبات فحسب بل رؤى أساسها الحد من الحوادث ويطبق بعدالة إبان تفعيله، كلها تشكل أدوارا تكاملية لأجل خلق حالة تشاركية ومسؤولية جماعية للحد من حوادث المرور.
كما أن المدارس من الممكن أن تساعد في نشر مفاهيم السلامة العامة واحترام القوانين والأنظمة وخصوصاً تلك المتعلقة بالسير، وذلك عبر تنظيم الندوات والمحاضرات والنشاطات داخل المدارس الرسمية والخاصة. إضافة إلى تعميم مبادئ القيادة السليمة، وتوزيع المناشير، وتعليق الصور داخل المدارس، والمطالبة بمناقشة مضمونها مع الأهل، وتنظيم الأبحاث والدراسات والأناشيد المتعلقة بالمواضيع التي تدور في مجال السلامة العامة. لأن مسؤولية التوعية على حوادث السير المدرسية هي مشتركة بين الدولة والمدرسة والأهل والجمعيات الأهلية والإعلام.
والظاهرة الخطيرة في هذه الأيام هي ازدياد عدد ضحايا الحوادث المرورية الناتجة عن الحافلات العمومية والتي تؤدي إلى حوادث القتل الجماعي، والتي تنتج عن عدم الوعي المروري لدى العديد من سائقي المركبات وتحديدا البعض من سائقي الحافلات العمومية. مما يشكل مآسي وطنية تهز مشاعر المجتمع برمته. ولربما يمكن ملاحظة ومتابعة أخطاء هؤلاء السائقين من خلال مركبات متحركة مزودة برادارات متحركة تلتقط مخالفاتهم كالسرعة الزائدة أو تغيير المسارب والتي تتسبب بالازدحام المروري أو الوقوف الخاطئ أو التجاوز الخاطئ وغيرها، وزيادة عدد المباحث المرورية لضبط مخالفات سائقي المركبات العمومية، إضافة إلى الحملات اليومية والروتينية على مختلف الطرق الخارجية والداخلية.
كما أن ظاهرة استخدام الهاتف النقال أثناء السياقة وخصوصا بين فئة الشباب تشكل خطورة لا يحمد عقباها، ولربما استخدام أسلوب التثقيف والتوعية أجدى في هذا المضمار، وان كان القانون يمنع استخدام الهاتف النقال أبان القيادة. ولربما أيضا نشجع الشباب على استخدام وسائل النقل العام أكثر من السيارات الخصوصية والتي باتت تشكل أزمات مرورية خانقة أثناء الذروة من أوقات الصباح أو الظهيرة. ولربما ضبط السلوكيات الخاطئة لدى بعض المراهقين أثناء القيادة يساهم في التخفيف من مشكلة حوادث المرور أو الحد منها. ولربما نحتاج لرفع سن الحصول على رخصة القيادة إلى عشرين عاما أو نحتاج إلى تشديد قوانين مدارس السواقة والتأكيد على فترة سواقة مناسبة قبل إعطائه الرخصة. ولربما نحتاج لزيادة أعداد وتوزيع وجود نوادٍ للسيارات وفتح قسم في إدارة السير للتنسيق بين الأهل وإدارة السير بخصوص المراهقين من السائقين الذي لا يستطيعون السيطرة عليه وإعطاء المعلومات المناسبة لإدارة السير لترى المصلحة المناسبة للشاب وأهله ووطنه والمجتمع، ولربما نحتاج بعض الإصلاحات التصميمية للطرق من حيث المداخل والمخارج والسعة المرورية، ولربما نحتاج إلى عدم السماح للشاحنات والمركبات الكبيرة بالدخول للمدن إلا في أوقات محددة أسوة بالدول المتقدمة، ولربما نحتاج إلى المساواة والعدل بالتعامل مع السائق بغض النظر عن جنسه أو عمره، ولربما نحتاج إلى ما هو أكثر من ذلك للحد من هذه الظاهرة المؤرقة وهذه الكوارث والمآسي وقضايا القتل الجماعي وعذاب الأسر والمجتمع والوطن!
الخلاصة أننا جميعا أطفالا وشبابا ونساء ورجالا وكهولا ومؤسسات عامة وخاصة ومجتمع وقطاعات وإعلام ومؤسسات تعليمية وجامعات وأسر تربوية ونقابة السواقين وهيئة التأمين مسؤولون بمسؤولية مشتركة تكافلية وتضامنية للحد من مخاطر حوادث الطرق والمرور بحكم انتمائنا للوطن وترابه الطهور لأنها باتت عدوا للوطن ومنجزاته واستثماراته التي تتركز في الإنسان الذي هو أغلى ما نملك، فهلّا بادرنا كل حسب استطاعته وحدود مسؤولياته!!
جامعة العلوم والتكنولوجيا الأردنية*
e-mail: mobaidat@just.edu.jo