أنطوان مسرّه يستردّ معياريّة القانون
سيف زياد الجنيدي
29-06-2019 03:24 PM
لا يُمكن وصف شعور السّعادة بفُرصة التّعايش مع صاحبٍ فكرٍ قويمٍ، يُجابه بثباتٍ وحكمةٍ حالة انفلات تشريعيّ تُنكر الأساس الوجوديّ للقانون وتُناهض مفهوم دولة الحقّ، خصوصاً إن كان الإيمان بواجب المسؤولية يملؤ وجدانك ويُعانق فِكرك.
البروفيسور مسرّه لمن لا يعرفه وأجزم أنّه غنيٌ عن التّعريف، هو مُفكّر عربيّ لبنانيّ، وقاضٍ في المجلس الدستوريّ، ورئيس كرسي اليونسكو لدراسة الأديان المُقارنة والوساطة والحوار في جامعة القدّيس يوسف، وعضو مُؤسس للمؤسسة اللبنانيّة للسّلم الأهليّ الدّائم، وله العديد من المُؤلفات في مواضيع النّظام الدستوريّ والديموقراطيّة والتّشريع. كما احتلّ البروفيسور مسرّه مرتبةً متقدّمةً ضمن قائمة "مائة شخص مُؤثرين في لبنان" وفق تصنيف مجلّة L'Express الفرنسيّة.
جابه البوفسور مسرّه مفهوم اللاقانون الذي وجد البيئة المُواتية لنشأته بالقانون المُعجّل رقم 129 الصّادر تاريخ 30 نيسان 2019 الخاص بتنظيم قطاع الكهرباء الذي يهدف إلى شرعنة حالةٍ واقعيّةٍ قائمةٍ بموجب نصوصٍ فاقدةٍ للصّفة الحقوقيّة.
قرّر المجلس الدستوريّ بموجب قراره رقم 20/2019 تاريخ 3 حزيران 2019 المنشور في مُلحق الجريدة الرسميّة عدد 29 ردّ الطعن المُقدّم من عشرة أعضاءٍ في مجلس النّواب اللبنانيّ بهذا القانون بينما انفرد البروفسور أنطوان مسرّه بإصدار قرار مُخالف لقرار المجلس هذا.
جسّد القرار المُخالف في طيّاته مبادئ ومعايير دستوريّة تفرض بطبيعتها الوقوف على أبعادها ومضامينها العميقة بعينٍ فاحصةٍ مُتأمّلة، لما تُشكّله من مثالٍ تقدميّ في الدّفاع عن سمو المبادئ والمعايير الدستوريّة والصّفة المعياريّة للقانون. كما يُمثّل تأصيل القرار منهجاً تقدميّاً لمفهوم العدالة الدستوريّة وفاعليتها في صون الشرعية الدستوريّة.
استند القرار المُخالف إلى المنهج الاستقصائيّ غير المُنغلق على رقابة الحروف والكلمات الدستوريّة، وإنّما جسّد مبادئ ومعايير دستوريّة مُستحدثة نابعةً من إدراكٍ حقيقي للظروف المُجتمعيّة بأبعادها كافة، وذلك بالاستناد إلى واقع تطبيق القوانين والقرارات الإداريّة التنظيميّة ذات العلاقة في موضوع التّشريع المُستحدث، وأثر عدم تطبيقها في الفساد وهدر المال العام، والبحث المُتأنّي في محاضر جلسة مجلس النّواب التشريعيّة المُخصّصة لمناقشة مشروع القانون محل الطعن، ورصد المُخالفات الخفيّة فيها ومدى تأثيرها على صحّة المُخرج التشريعيّ.
جابه القرار ظلام التّبرير المُستند إلى أنّ تطبيق القانون هو الضّرر ليُعلن بوضوح أنّ هذا التّشخيص لا يُعتبر مجرّد مُخالفةٍ قانونيّةٍ بل ينحدر إلى التّأسيس لحالة لاقانون. ورد في متن القرار الآتي:"إنّ إصدار قوانين وتعديلات متراكمة ومتكرّرة، وعدم تطبيق القوانين طيلة سنوات، وبخاصّةٍ في قطاع الكهرباء، والتّحجج بالقانون للتّبرير، ثم العودة إلى تعديلات واستثناءات في سبيل شرعنة أمرٍ واقع، كل ذلك يُؤسس لحالة لا قانون non-droit".
أمّا في سيبل الدّفاع عن مبدأ الفصل بين السّلطات، اعتبر القرار أنّ صلاحية التّشريع بمثابة وديعة يُؤتمن عليها المُخوّل بها، وبالتّالي أقرّ معايير مُحدّدة ودقيقة لتفويض الاختصاص. كما أبرز القرار فكرة عدم مشروعية تجاوز الواجبات التشريعيّة بالتّخلي عنها واعتبره خرقاً لمبدأ الفصل بين السلطات وتعدّياً على المنظومة الدستوريّة ومفهوم دولة الحقّ. وحذّر بثباتٍ من عدم مشروعية تحوّل الاستثناء إلى قاعدة عامّة، مُعتبراً مثل هذا التّحول قلباً لمفهوم القاعدة الحقوقيّة وانحرافاً لمعياريتها.
أنار البروفيسور مسرّه بموجب قراره هذا شُعلة إبتكار المبادئ والمعايير الدستوريّة في العالم العربيّ، وأنذر بخطورة تحوّر مفهوم العدالة الدستوريّة نحو مجرّد البحث عن البراهين، ليُعلن بصراحته المُعتادة وبروحانيته السامية أنّ العدالة تتطلّب التّصوف.