الاحصائيات التي نشرتها دائرة قاضي القضاة حول اجمالي حالات الطلاق التراكمي التي سجلت عام 2018 (بلغ عددهم في يوم واحد نحو 50 حالة بواقع اكثر من 20 الف سنويا ) استوقفتني لأكثر من سبب، الأول أن عدد الذين ذهبوا للمحاكم الشرعية واوقعوا الطلاق بانواعه كان كبيرا ومفاجئا وخارجا عن المألوف (لا تسأل عن الطلاق الصامت في البيوت) والطلاق بهذا المعنى (اضطراري) و ليس استهلاكيا أو ترفيهيا، الثاني أن الجهة التي اعلنت الخبر لوسائل الاعلام (دائرة قاضي القضاة ) تعمدت ذلك، لا لكي تستعرض انجازاتها أو تذكر الجمهور بها، وإن كان من حقها ذلك، ولديها بالطبع (انجازات) اخرى أهم، وإنما لكي تبعث برسالة على أمل أن تستقبلها (لواقطنا) إن كانت لم تتعطل بعد، الثالث ان توقيت طرح السؤال وتسريبه كان لافتا، إذ لا يخفى على أحد ما يمرّ به مجتمعنا في هذا الوقت (العصيب) من أحداث وضغوطات و مناخات تعكس – بشكل او بآخر- ما أصاب الناس من (ضيق ) وعدم قدرة على التحمل و الصبر، وما دفع هؤلاء - وربما غيرهم ممن أشهروا الطلاق دون سؤال - الى اتخاذ قرار (التسريح) مع شريكه وانهاء (الميثاق) الغليظ معه، لأسباب قد تكون أحيانا وجيهة وقد تكون مجهولة وغير معروفة أحيانا أخرى.
الطلاق ليس حدثا عابرا، وانما انفجار كبير ومجرد التفكير به يعني ان الانسان – رجلا- كان أو امرأة، تعرض الى ضغوطات لا طاقة له بتحملها، وانسدت امامه ابواب العمل و الامل، فأصبح أمامه خيار واحد وهو اشهار (الطلاق) و الخلاص من (شراكة) أصبحت غير قابلة للاستمرار،والطلاق – هنا – ليس مهما بحد ذاته، فهو يمثل نهاية لحدث وبداية لحدث آخر ربما يكون مختلفا تماما، لكن أهميته تندرج في الاسباب التي دفعت اليه و في السياقات التي افرزته وفي ( نمط) هذا الطلاق ومآلاته ايضا.
الرسالة التي جاءتنا من دائرة قاضي القضاة،تقدم لنا - كما افهمها- جزءا من (الصورة) التي انتهى اليها مجتمعنا تحت عنوان (الطلاق)، الصورة – بالطبع- مهمة و العنوان أهم، و في تفاصيل (الصورة) يمكن ان نلاحظ ما أصاب مجتمعنا من تحولات وما يتعرض له من ضغوطات وما وصل من انفجارات (آخرها هذا العدد من المضطرين للطلاق) كما يمكن ان نلاحظ أن الاسباب التي دفعت هؤلاء الى (أبغض الحلال) سبق وأن دفعت غيرهم الى (الانتحار) أو الى ممارسة العنف أو الى التطرف (أليست معظم هذه الممارسات تتقاطع مع التطرف بشكل أو بآخر) مما يعني أن صرخات الطلاق في المجال الاجتماعي قد تنتقل الى مجالات أخرى أخطر (ثمة طلاق مع الدين للأسف بسبب الاساءات التي يتعرض لها ) وأن وراء هذا الطلاق، أو حتى مجرد التفكير فيه، ظروف صعبة وضاغطة، وآفاق مسدودة، وحالة من الحيرة و الارتباك و الشك و انعدام اليقين، ليس في دائرة الاسرة أو في حدود (البيت الزوجي) فقط، وانما خارجه ايضا حيث المجتمع وحيث المجال العام بكل ما فيه من ظروف وأحداث،توحدت كلها على ما يبدو في عنوان واحد وهو (القهر) المتطابق نسبيا مع الطلاق.
باختصار، ارجو أن لا تمر واقعة السؤال عن الطلاق (بالمناسبة ثمة تصاعد في نسب الطلاق في مجتمعنا يقابله تصاعد ايضا في العزوف عن الزواج)، دون ان ننتبه لاشاراتها الخطيرة، ودون ان ندقق في اسبابها وظروفها ومساراتها، لأن تجاهلنا لها يعني أمرين : احدهما أننا لا نريد أن نعرف ما يدور في مجتمعنا حقا، وما تعبر عنه حالة (الطلاق) من مدلولات خطيرة، وثانيهما أننا حين لا نريد أن نعترف بما فعلناه بأنفسنا، وبما حدث لغيرنا، لن نفلح في معالجة أخطائنا، ولن ننجو مما أصاب الآخرين حولنا.
الدستور