یأتیك من یقول ان الامیركیین لا یفھمون المنطقة، ولھذا یقدمون وصفة اقتصادیة لقضیة سیاسیة، توطئة لحل سیاسي، ویركزون على الأرقام والمشاریع والأموال والوظائف والاستثمارات، في مقابل قضیة ترتبط باحتلال جاثم في فلسطین.
ھذا غیر صحیح ابدا، فالامیركیون لدیھم خبراء في كل ملفات الشرق الأوسط، من التفاصیل القبلیة مرورا بقضایا الدین والمذاھب، وصولا الى الصراعات والطبائع الاجتماعیة، والبنیة الداخلیة للمجتمعات، وھؤلاء الخبراء تجدھم في البیت الأبیض والمخابرات المركزیة الأمیركیة، ووزارة الخارجیة، والسفارات، ومراكز الأبحاث والدراسات، ومراكز التخطیط، واغلبھم یجید اللغة العربیة، ویمضون أعمارھم وھم یتابعون ادق تفاصیل خریطة المنطقة الإنسانیة.
الإدارة الأمیركیة حین قدمت الوصفة الاقتصادیة، لم تكن جاھلة، بل تعرف ان ھناك قضیة احتلال، وان ھناك كیانا تأسس وسط ملیار ونصف الملیار عربي ومسلم، واصرارھم على وصفة السلام الاقتصادي، تعمد وإصرار، یعبر عن تجاھل حقوق الفلسطینیین تماما، ولیس لانھم یعتقدون ان السلام الاقتصادي، ھو البدیل، عن فلسطین، كل فلسطین، او حتى ثلثھا.
اغلب الظن ان الوصفة الاقتصادیة، التي قد تتبعھا وصفة سیاسیة، صیغت بطریقة یستحیل تنفیذھا، ولغایة محددة مسبقا، ھي القول ان واشنطن حاولت، لكن الشعب الفلسطیني والعرب أیضا، لدیھم رفض مطلق للتعاون وللحلول، وبما ان ھذا الرفض واضح، فأمام إسرائیل كل الفرصة من اجل اكمال مخططھا.
قیل مرارا ان إسرائیل لا ترید دولة فلسطینیة أیا كانت مساحتھا، ومن المستحیل ان تقبل بنشوء وظائف شاغرة في الأردن انضم إلى أكبر موقع للوظائف في الشرق الأوس وتقدم إلى الوظائف مجانًا وبسھولة!
دولة فلسطینیة ولو على ربع مساحة الضفة الغربیة، تصیر خطرا اجتماعیا وامنیا وبؤرة شغف وطنیة یتطلع الیھا الفلسطینیون في العالم، وھذا الرأي الإسرائیلي، یتطابق مع اراء عواصم عدة في العالم، ترى في قیام الدولة الفلسطینیة مشكلة أیضا، وتتطابق مع إسرائیل حول ان القصة الیوم ھي إدارة السكان فقط، ولیس قیام دولة فلسطینیة.
كم تبقى اذاً من اتفاقیة أوسلو التي اعترفت بموجبھا منظمة التحریر الفلسطینیة بإسرائیل وبكون ثلاثة ارباع فلسطین ھي دولة إسرائیل، مقابل ربع الدولة. ھذا السؤال لا تجیب عنھ سلطة أوسلو ولا غیرھا، وكأن مھمة من صاغوا أوسلو كانت تقدیم التنازل الأخطر لإسرائیل من جانب الطرف المبتلى، أي الاعتراف بالاحتلال ومنحھ رخصھ شرعیة، فیما تصمت السلطة الیوم عن استحقاقات أوسلو المطلوبة من الإسرائیلیین، فلا دولة فلسطینیة ولا حتى ربع دولة!
ما یقال ھنا، صراحة ان غالبیة الدول تتفق سرا، على عدم قیام دولة فلسطینیة، وتحویل دور السلطة الى دور وظیفي لصالح إسرائیل، بدلا من إقامة الدولة الفلسطینیة، وعرقلة كل إمكانات قیام ھذه الدولة، وطي كل الملف، والتلویح بثمن مالي، اذا أراد الفلسطینیون ان یحصلوا على فرص للعمل، بدلا من وطن، وعلى فرص للحیاة، بدلا من الموت برصاص الاحتلال.
واشنطن، تدرك مسبقا، قبل اطلاق صفقة القرن، بشقھا الاقتصادي او السیاسي، ان ھكذا صفقة مستحیلة التنفیذ، اذ لدیھا سفراء ودبلوماسیین یكتبون تقاریرھم لیل نھار، ولدیھا جیش من الخبراء في المنطقة، ویعرف أي جاھل في واشنطن، ان لا زعیم عربیا قادر على تبني صفقة القرن، مثلما ان لا احد سیقبل ثمنا اقتصادیا لبلد محتل بھذه الطریقة.
تم اشغالنا على مدى شھور بھذه القصة، وھذا الفشل الذي نراه او سنراه، لن یكون مفاجئا لواشنطن، فقد صاغت كل الملف حتى یفشل بشكل متعمد، من اجل الخطوة اللاحقة، وحتى تخرج بعد قلیل لتعلن انھا حاولت لكن لا احد یتعاون، وھي بعد ذلك تعطي رخصة إضافیة لتل ابیب من اجل اكمال كل مخططھا، فوق الرخص القدیمة التي كان آخرھا السماح لإسرائیل بضم الجولان والاعتراف بذلك، وضم القدس، وما ھو مقبل وآت على الطریق من علاقات عربیة إسرائیلیة علنیة.
علینا ان نفتح عیوننا جیدا، بعد انتھاء ھذه الزفة، زفة صفقة القرن، وماذا یخطط الإسرائیلیون والأمیركیون معا تحت عنوان انھم مدوا أیدیھم للسلام لكن الشعب الفلسطیني لا یرید، فیما العرب الرسمیون علیھم الا یبقوا اسارى لمحرمات الفلسطینیین، وقد یكون واجبا علیھم مصالحة إسرائیل، واستیعابھا في المنطقة، وفقا للرأي الأمیركي الذي بالتأكید لدیھ خطة جاھزة لما بعد خطة صفقة القرن.
الغد