ثمة ما يؤكد أنّنا نعاني (أردنياً) من مرض "انفصام الشخصية" (الشيزوفرينيا) في خطاباتنا ومؤسساتنا وسجالاتنا السياسية، إذ يمتلئ واقعنا بالمفارقات والتناقضات والأحجيات العصية على التفسير والفهم!
المسؤولون الأردنيون من أكثر السياسيين العرب الذين يتحدثون عن الإصلاح السياسي ومكافحة الفساد وعن الديمقراطية. في الواقع العملي نسير إلى وراء بصورة سريعة ومنتظمة.
الوحدة الوطنية لازمة على لسان المواطن الأردني يرددها صباح مساء، وفي كل الاجتماعات العامة. في الواقع فإنّ التصرفات والأقوال تخالف ذلك تماماً، بل نحن في مرحلة صعود ونمو مطّرد للهويّات الفرعية المختلفة على حساب الهوية الوطنية.
انظر في مختلف مجالات الحياة العامة وأبعادها ستجد هذه الظاهرة- المرض تنتشر، وتنبئ عن خلل بنيوي وجوهري في إدارة حياتنا السياسية وفي نقاء مجتمعاتنا، وتُمثِّل "ثقباً أسود" حقيقياً في صورة البلاد أمام الرأي العام العالمي والعربي، وقبل ذلك أمام نفسها.
أول من أمس، كان الملك يتحدث بلغة غير مسبوقة تجاه إسرائيل (في مقابلة هآرتس) ويُصعّد في لهجة الخطاب الرسمي الأردني، واضعاً لأول مرة، منذ سنوات، جدوى اتفاقية وادي عربة على الطاولة أمام الرأي العام الإسرائيلي والغربي.
قبل ذلك، بدت إشارات من "مطبخ القرار" بضرورة التصعيد الإعلامي والسياسي مع إسرائيل لرفع كلفة توجهات الحكومة الإسرائيلية أمام الرأي العام الإسرائيلي والعالمي، في سياق معركة دبلوماسية يخوضها الأردن مع هذه الحكومة منذ لحظاتها الأولى، لم يتمكّن إلى اليوم بعض المسؤولين الأردنيين من إدراكها!
موقف الملك لقي ترحيباً وحماسة عربية وفلسطينية، وشكّل – بالفعل- نقلة نوعية في طبيعة الخطاب الرسمي العربي وصيغته، كسرت تلك "الصورة النمطية" التي عملت وسائل إعلامية وحكومات عربية على تلبيسها للأردن، وكأنه يسير في ركاب الحكومة الأميركية والتأييد الخلفي لإسرائيل دوماً.
خطاب الملك ومواقفه السابقة، حتى في ذروة العدوان على غزة، وضد الجدار العازل، والمرافعة الدائمة عن حقوق الفلسطينيين، جميعها دفعت باتجاه رد الاعتبار للأردن وجِدّيّة مواقفه أمام الرأي العام العالمي والعربي.
على الجهة المقابلة، فإنّ تصرفات مسؤولين أردنيين تدفع بالاتجاه المعاكس تماماً لمواقف الملك، وكأن هنالك فجوة عميقة تفصل بين الموقفين، أو كأنّنا أمام مسؤولين في بلد آخر، غير الأردن!
فأول من أمس، أيضاً، رفض المسؤولون الترخيص لمسيرة الملتقى الوطني دفاعاً عن القدس، وبقي الحظر إلى اللحظات الأخيرة، بالرغم من طلب المنظّمين بالإذن للمسيرة، التي تصب مع الموقف الملكي الرسمي، وبالرغم كذلك من ضعف المسيرة ومحدوديتها!
تصوّروا لو أنّ المسيرة مُنعت أو أنّ مكافحة الشغب أوقفتها! فستكون هي مادة الأخبار العربية والعالمية وستطغى على الخطاب (والموقف الملكي) في الصورة الإعلامية والسياسية، وتُفقد الخطاب مصداقيته أمام العالم، بلا أي ثمن أو فائدة سوى مماحكات داخلية بائسة.
ثمة اتجاه رسمي يخشى من توظيف "الإخوان" للأحداث السياسية شعبياً وإعلامياً، ويستعيد تجربة "العدوان على غزة"، وادعاء السلطة الفلسطينية أنّ الأردن منح الشارع لـ"الجيش الأخضر" المؤيد لحماس، ويدفع هذا الاتجاه الرسمي إلى منع المسيرات.
هذا الموقف سطحي وقصير النظر. إذ إنّه يريد تخسير الأردن الصورة الإعلامية بحسابات وهمية ضعيفة. فالشارع الأردني لا يحتاج وصاية من أحد، وهو يمتلك وعياً متقدما حتى على النخب، وليس مادة أولية تشكلها مسيرة هنا أو هناك.
المنع يتناقض مع الكفالة الدستورية للمواطنين، باختلاف توجهاتهم، بحق التعبير والتجمع. وسيعزز حظر التعبير السلمي، في المقابل، من القنوات الخلفية، ويرفع من درجة الاحتقان، ويعزّز من دعاوى المشككين ويمنحها مصداقية.
ليس من المبالغة أنّ تلك العقلية الرسمية هي التي منحت الإسلاميين نفوذاً في الشارع خلال السنوات السابقة، وأضعفت من مصداقية الدولة وقدرتها السياسية على إدارة الحياة العامة!
m.aburumman@alghad.jo