** التصعيد الاردني الاخير لحماية القدس تحوّل ايجابي باتجاه استقالة الدور السياسي الاقليمي المفقود لمصلحة سورية والسعودية ومصر.
صعّد الأردن حملته الدولية لوقف الاعتداءات الاسرائيلية المتناسلة على القدس العربية المحتلة والمسجد الاقصى المبارك وعمليات تطفيش المقدسيين بعد أن استفحلت مخاطر تهويد هوية المدينة العربية وسط عجز السلطة الوطنية الفلسطينية وسائر دول الاقليم عن التحرك فعلا وليس قولا.
ملامح الاستنفار الدبلوماسي بدأت تتعمق منتصف الشهر الماضي عقب لقاء جمع الملك عبد الله الثاني مع وفد يمثل هيئات مقدسية. تكتسب المملكة شرعية التحرك العاجل كونها تتولى مسؤولية رعاية المقدسات الاسلامية والمسيحية في القدس المحتلة, بحسب نصوص معاهدة السلام الاردنية - الاسرائيلية لعام ,1994 والتي باتت تقف على ساق واحدة بعد اليوم.
بعد ذلك اللقاء اجتمع مجلس السياسات الوطني ورسم ملامح خطة أردنية للتحرك الفوري بهدف فضح الممارسات الإسرائيلية عبر رسائل احتجاج سلّمت لنائب السفير الاسرائيلي في عمان وسفراء الدول دائمة العضوية في مجلس الامن.
وصلت الحملة ذروتها قبل ثلاثة أيام, حين حذّر الملك عبد الله الثاني في مقابلة مع صحيفة هآرتس الاسرائيلية من استمرار الاجراءات احادية الجانب في القدس, قائلا إنها ستهز العلاقة مع الأردن وتطلق "شرارة اشتعال كبيرة" عبر المنطقة التي تقف على مفترق طرق بين الحرب والسلم.
رسائل مدجّجة في عدة اتجاهات وعواصم صناعة القرار في العالم.
في حال انفجر برميل بارود القدس, سيتحمل الاردن الوزر الأكبر من اللوم أقلّه لأن القدس و"ديعة لدى الهاشميين" منذ عشرينيات القرن الماضي, ولها حساسية خاصة عند أتباع الاديان السماوية الثلاثة.
الرأي العام الأردني والفلسطيني يساند أي تحرك أردني لإنقاذ القدس. بل ويعوّل على عمان أضعاف ما يأمله من سلطة الرئيس الفلسطيني محمود عباس الغارقة في سلسلة من الفضائح المتعلقة بأسلوب تعاطيها مع الحكم بعد أن فقدت مرجعية تمثيل الشعب الفلسطيني. تقف تداعيات "جولدستون غيت" الأخيرة خير شاهدا على هذا الانهيار, إذ أضحى هوس المحافظة على الكرسي أهم من الشعب الفلسطيني وتضحياته وحقوقه المشروعة.
لكن المأساة الكبرى تكمن, بحسب ساسة وحزبيين, في غياب أي تحرك جمعي عربي-إسلامي أو حتى أوروبي وأمريكي لإسناد عمان في مسعاها للجم الاجراءات التي تمس "النسيج الثقافي والعمراني والسكاني والتراثي" للقدس الشريف. وهكذا يقف الأردن وحيدا في مواجهة حكومة اليمين المتطرف بقيادة بنيامين نتنياهو التي تسعى إلى توتير أجواء المنطقة للهروب من استحقاقات حل الدولتين.
حتى لجنة القدس التي تشكّلت عام 1975 برئاسة ملك المغرب خلال اجتماع وزراء خارجية دول منظمة المؤتمر الاسلامي لم تجتمع منذ 12 سنة.
صحيح أن مسؤوليات ملف القدس المحتلة صارت هذه الأيام أكبر بكثير من قدرات الأردن السياسية والمالية والمعنوية. لكن الأردن لن يتوقف عن الحراك, أقله للحفاظ على الحق العربي والاسلامي والمسيحي وحماية المدينة ومقدساتها "بطرق سياسية وقانونية وفنية", من سرطان التهويد المستفحل على أمل تطبيق الشرعة الدولية يوما, أو عند ولادة دولة فلسطينية قابلة للنمو والحياة.
معركة الأردن لحماية القدس ومقدساتها كانت اندلعت من خلال سلسلة إجراءات, فور وقوع هذه المدينة وسائر الضفة الغربية بيد إسرائيل عام .1967
بعد ثلاثة عشر عاما على تلك "النكسة" نجح الأردن في استصدار قرار مجلس الأمن 478 الذي اعتبر ضم إسرائيل للقدس الشرقية عام 1967 "لاغ وباطل".
عام 1981 استطاع طاهر المصري, آنذاك سفير الأردن لدى فرنسا ومنظمة اليونيسكو, تسجيل القدس على قائمة التراث العالمي المهدد بالخطر, وذلك في خطوة غير مسبوقة منحت لمنطقة تحت الاحتلال.
ودرءا لطمس هويتها العربية, استثنى الأردن هذه المدينة ومقدساتها من قرار فك الارتباط القانوني والاداري مع الضفة الغربية عام .1988 وما فتئ الأردن يتحمل تكاليف ترميم الأماكن المقدسة ويغطي معاشات العاملين في الأوقاف ودائرة قاضي القضاة, رغم الجحود في بعض الأحيان.
ثم جاءت معاهدة السلام "لتحترم دور (المملكة) الخاص" في الأماكن المقدسة. أرفق ذلك بتعهد إسرائيلي بمنح الأردن أولوية كبرى "في هذه الأماكن", لدى إطلاق مفاوضات الوضع النهائي.
في الأثناء تواصل اللجنة الملكية لإعمار القدس رعاية الأماكن المقدسة وفضح ممارسات إسرائيل ضد تراث المدينة, آخرها حفر أنفاق في محيط المسجد الأقصى بهدف تقسيمه وتقويض أساساته.
المهندس رائف نجم, رئيس اللجنة الملكية الناشطة منذ ثلاثة عقود, يحفظ عن ظهر قلب شكل أحجار مباني القدس المحتلة.
المفارقة أن الرأي العام هنا لم يسمع بأن بعثة المملكة لدى فرنسا واليونيسكو برئاسة السفيرة دينا قعوار, عميد السلك الدبلوماسي العربي هناك, وطاقم التفاوض المساند الذي أوفدته وزارة الخارجية, نجحوا يوم 20/9/2009 في استصدار قرار ضد إسرائيل وصفه دبلوماسيون في اليونيسكو بالخطوة "غير المسبوقة".
لم تعلن الحكومة ذلك الاختراق, ربما لأنه تزامن مع بدء إجازة العيد حين غاب معظم المسؤولين عن الانظار.
في ذلك الوقت انتزع الأردن "أسف" المجلس لقيام إسرائيل بمنع خبراء أردنيين يوم 27/7/2009 من دخول باب المغاربة لأخذ قياسات لازمة لتقديم مشروع أردني متكامل لصيانة باب المغاربة.
كذلك اعترف المجلس ضمنيا بمسؤولية إسرائيل في السماح لخبراء أردنيين ومن مؤسسة إدارة الوقف بالوصول إلى الموقع تماشيا مع مسؤوليتها بموجب القانون الدولي. ذلك القرار شكّل ضربة للوفد الإسرائيلي الذي كان يصر على دخول مشروط للموقع.
إلى ذلك, أعاد القرار تأكيد دعوة أمين عام المنظمة لعقد إجتماع متابعة للخبراء بأسرع وقت ممكن, وبعد أن تتوصل الاطراف المعنية إلى تفاهمات, علما أن الاجتماع كان مقررا قبل أكثر من عام. وبذلك تكون اليونيسكو قد أقرت وأعلنت أن تعاون إسرائيل في هذا المجال قد توقف بخلاف الرواية الاسرائيلية.
أعرب ذلك القرار أيضا عن الأسف حيال اعتداءات مجلس القدس للتخطيط ولجنة البناء على باب المغاربة, وطالب بإتاحة تصميم باب المغاربة للأطراف المعنية كافة بحسب روح وفحوى قرارات لجنة الحفاظ على التراث. وطالبت اليونيسكو في قرارها بعدم القيام بأي إجراءات, أحادية او غيرها, قد تؤثر على "أصالة وتكاملية" الموقع طبقا للمعاهدة الدولية لحماية التراث الثقافي والطبيعي العالمي لعام 1972 وبنود اتفاقية لاهاي لحماية التراث الثقافي في حال النزاع المسلح. كذلك أكدت ضرورة قيام مرصد التراث العالمي في القدس بمراقبة التطورات المرتبطة بهذه المطالب حسب نظام المتابعة القائم عبر الأردن.
يثبت نصر الأردن في اليونيسكو مرة أخرى عجز الاستراتيجية الإعلامية للدولة الأردنية في تبيان حقائق تدعم الموقف الرسمي وتظهر جانبا مضيئا وفاعلا لجهد فاعل في حماية القدس المحتلة.
بالطبع يمتلك الأردن خيارات قانونية وسياسية لفضح الأعمال الإسرائيلية التي تجاوزت نقطة اللاعودة, بخاصة أن نتنياهو يصر في أدبياته السياسية على أن القدس بجزءيها وحدة واحدة غير قابلة للتفاوض.
طبقا لمعاهدة وادي عربة, تحل النزاعات بين البلدين عن طريق المعاهدة أو تفسير نصوصها بالتفاوض. وأي منازعات لا يمكن حلها بالتفاوض ستحل بالتوفيق أو تحال إلى التحكيم.
بإمكان الأردن مثلا دعوة مجلس الامن لاستصدار قرار يطالب إسرائيل بوقف إجراءاتها الأحادية لما في ذلك من إخلال بالأمن والسلم في المنطقة وتهديد مباشر للمملكة.
وقد تهيأت الأرضية لطلب تدخل في المستقبل بعد أن سلم الاردن سفراء الدول دائمة العضوية في مجلس الأمن رسائل الاحتجاج قبل أيام.
وبإمكان الأردن أيضا الطلب من مجلس الأمن تحويل ملف القدس المحتلة برمته إلى محكمة العدل الدولية للطعن في شرعية الإجراءات الإسرائيلية, على غرار طلب مماثل طعن من خلاله الأردن في شرعية بناء إسرائيل جدار الفصل العنصري مع الضفة الغربية.
بالطبع تظل قرارات المحكمة غير ملزمة. لكنها تدخل في باب تسجيل موقف سياسي وقانوني على الساحة الدولية بطريقة ستثير غضب إسرائيل وتزيد من عزلتها, كما حصل قبل أربعة أعوام عندما أشعل وزير الخارجية آنذاك د. مروان المعشر معركة الجدار في جبهة المحكمة الدولية.
التصعيد الأردني الأخير تحول إيجابي باتجاه استعادة الدور السياسي الإقليمي المفقود لمصلحة سورية والسعودية ومصر, مع أنه سيكون الأكثر تأثرا في حال استئناف المفاوضات الفلسطينية -الاسرائيلية حيال قضايا الوضع النهائي, كمقدمة لحل الدولتين.
داخليا, يفيد هذا الحراك في امتصاص الاحتقان المتعمق بسبب تردي الوضع الاقتصادي والمعيشي, وتراجع هيبة الدولة وضعف تنفيذ القانون وغياب إرادة سياسية لتطوير الحياة الديمقراطية وأسلوب إدارة الدولة الحديثة.
بعد هذا الاستنفار الذي يدق ناقوس الخطر في العواصم العربية والإسلامية, لا تلوموا الأردن بعد اليوم عن سبات العرب والمسلمين وغطرسة إسرائيل, إذ تتهيأ لاختراع مصيبة جديدة من العيار الثقيل في الجوار الغربي الملتهب.
rana.sabbagh@alarabalyawm.net