السياسة .. فالاقتصاد
المحامي عبد اللطيف العواملة
26-06-2019 09:13 AM
النقاش حول العدالة الضريبية يعيدنا الى تفكير اكثر شمولية في جوهر العمل الحكومي و اساسياته. فمنذ حوالي ثلاثة عقود و نحن نردد، و "بدون تردد"، ان تحدياتنا الاساسية هي اقتصادية و ليست سياسية بالأخص، و بالطبع ليست اجتماعية. اصبحت هذه "القاعدة" من المسلمات. ان ضبط المصطلحات و تصويب القواعد ضروري جدا من اجل وضع ايدينا على الحلول الحقيقية.
بداية، لا بد من توضيح مفهوم السياسة عندما نتحدث عن الدولة الحديثة. ليست السياسة في اصلها الجدل حول الاشخاص و التدخلات و الظروف الخارجية او المحاصصة المناطقية او العشائرية و ما شابهها من مواضيع على اهميتها. السياسية في العمل الحكومي هي مناظرة الافكار و الاطر المتعارضة و مقارنة الخيارات، من غير تشكيك في الوطنية او النزاهة، و ليست هي صراع الاشخاص خلف الكواليس او الخلافات الشخصية و الشللية في المجال العام. من هذا المنظور، فاننا اليوم في الاردن بحاجه الى سياسين و ليس لموظفين. الموظف البيروقراطي الممتهن مطلوب و لكنه يجب ان يعمل بتوجيه السياسي و هذا غائب.
لا يتميز العمل الحكومي بتبادل الافكار او مراجعة دقيقة للبرامج او تركيز على جوهر الامور. المعالجات عامة و تحديد جذور المشاكل لا يعتمد على العلم و الدراسات او مقارعة الحجة بالحجة بل فيه كثير من الشخصنة. تقول الحكمة ان الصغار يتحدثون عن الاشخاص و الكبار يتحدثون عن الافكار و الرؤى. في غياب النقاش العميق يتجه المواطن الى وسائط التواصل الاجتماعي و الاعلام البديل و يصبح اداة من ادوات الشائعات التي تؤدي الى العبث و العشوائية.
اين هي النقاشات البناءة في الفلسفة الضريبية؟ في استراتيجيات التعليم؟ في اولويات الرعاية الصحية و في الخدمات و المرافق العامة؟ في اداء البرلمان؟ في التوظيف و في اعداد القيادات الحكومية؟ كم من حكومة قدمت برامج متكاملة و تم الرد عليها ببرامج بديلة شاملة؟ هل تداولنا سياسات و سياسات بديلة و بشكل منهحي في اي من اولوياتنا الاقتصادية و الاجتماعية؟ هل ناقشنا مثلا و بشكل مفتوح و صريح مشاكلنا من بطالة و عنف مجتمعي متزايد في المستشفيات و المدارس و الطرقات، و حتى داخل الاسرة الواحدة؟ هل تبادلنا المقترحات في المواصلات العامة او الفساد او الفكر الارهابي؟ هل ناقشنا بانفتاح مواضيع العناية الجسدية و النفسية بكبار السن و المعاقين او المساواة و المواطنة الحقيقية او الطبقية الاقتصادية و انعكاساتها؟
ما هي علاقة الفقير بالغني، العامل بصاحب العمل، المستهلك بالمنتج، الطفل بالعائلة و المجتمع؟ هل تناظرنا في اولويات الانفاق العام و الرواتب و المزايا في الموسسات الحكومية و شبه الحكومية او الشركات الحكومية؟ هل نبني استراتيجياتنا على البحث العلمي الموضوعي؟
ان تحديد اجندات فلسفية و اخلاقية للعناصر الانفة الذكر هو السياسية بعينها و هذا ما نحتاجه. قبل اقرار توجهات اقتصادية و اجتماعية لها انعكاسات طويلة الامد، لا بد من مناقشة سياسية لافكار مختلفة و توجهات بديلة و عرضها على المجتمع ليتخذ القرارات الصعبة و يتحمل مسؤوليته في التعامل مع تبعاتها لا ان يتم اسقاطها عليه و كأنها حقائق مسلم بها. و هنا تكمن الخطورة، حيث ان لا احد مسؤول لان القرارات ليست مسؤولية عامة و على هذا الاساس يصبح الجميع متفرجا لا شريكا.
من دون سياسة يصبح معظمنا متفرجون و بعضنا مستفيدون و لكننا لسنا شركاء في الوطن متكافلون متضامنون كما يجب ان نكون. اذا لم نحل عقدة السياسة فلن تنفعنا الاستراتيجيات الحكومية الاقتصادية و الاجتماعية المختلفة بغض النظر عن مدى صحتها. الخيارات الاقتصادية و الاجتماعية الكبرى تبدأ بالسياسة، و من بعد ذلك تحتاج الى التطبيق البيروقراطي المهني الفعال.