لم ننهزم بعد، ما زال فينا بعض المقاتلين وبعض الحصّادين.. نذود عن خُصل السنابل بالمناجل، نمشّط غرة القمح الشقراء بأصواتنا، ننهض كل «شوال» تسقطه الحصّادة لأنه يشبهنا ومن يشبهنا لا يليق به السقوط..
ما زلنا هنا، نفلح الأرض بما أوتينا من حياة ،صحيح أن سفح الجباه كساه ثلج العمر، ولوّحت شمس الشقاء ابتساماتنا الا أننا لا نموت، «فالأكياس» البيضاء «أسبرين» حياتنا، وأكفان أعدائنا لن نتوقف عن خياطتها الا إذا غادرتنا الحياة..
تأسرني الطقوس ،تلك الجلسة السنوية على رأس «السهم» تحت زيتونة أو تحت ظل «البكم».. نجلس على التراب نمسك عود القش نكتب أو نحسب أو نرسم ما يدور في أذهاننا، وعلى التراب يُبنى جدول ضربٍ سريع بين أخي محمود والبدوي الأمين وصفي اللحلوح يحسب على التراب ثمن «العقير» وعدد «خيشات التبن» ويحسم منه الدفعة الأولى، نشرب الشاي المخلوط بالقش.. ونراقب الحصادة التي تتّجه شرقاً وكأنها تجر الشمس خلفها، نراها بعيدة، صوتها شجي يوقظ الصمت الرتيب، نراها دجاجة تبيض لنا الأكياس البيضاء، يدغدغها نسيم السهل الذي يتحلل للتو من إحرام الحنطة في حجّ الحصاد.. نراها أمّاً تخبز لنا الرغيف القادم والحلم الذي يجدد اشتراكه كل عام، نراها تسطّر لنا دفتر كل الأيام كي لا يحيد حرف الفلاح عن خط «كوارته» وكرامته.. وبعد أن تصافح «رأس السهم شرقاً» تلتف لنا باسمة بدخان مخلوط بغبار القمح الذهبي..
ما زلنا هنا، نسأل عن «الحَبّ» و«الحبّ» عن «سعر العقير» وعن «الرمي» وعن جيران سبقونا قبل أيام بالحصاد.. ما زلنا هنا، يعلق القش الناعم فوق رموشنا، يلتصق بنا كأصغر الأبناء، يلوّن ملابسنا، ما زلنا هنا، «نعكُم» الشوالات، الساعد يمسك الساعد، والكف تلتقف الرسغ فيتوحّد النبض على وسادة الحنطة.. ما زلنا هنا، نأبى الانكسار، نأبى الرحيل، نأبى الانفصال عن تفاصيل أبي وأحلام أبي وأرض أبي..
ما زلت هنا، لكنني أشعر بالحزن آخر الموسم، عندما تودّع السنابل الأرض، يذهب القش مع مالك جديد.. ويذهب القمح مع مالك آخر، ويبقى السهلُ وحيداً لا يؤنسه سوى عصافير بحّ صوتها وهي تبحث عن أعشاشها وعن صغارها التائهين.. أشعر بالحزن عندما يطير غبار الذهب شرقاً، عندما تتدحرج «كبّة الخيطان»، وتتعثر ببيت شوك، عندما تتدحرج كبّة الأحلام وتتعثر بزفير شوق، عندما يغادر صوت آخر مركبة لنا في المدى.. أحزن لأنني لا أدري متى سأعود إلى حجّ السنابل مرّة أخرى!!
لكننا ما زلنا هنا..
الراي