تحوّل مسلسل "جن" الذي بٌثت الحلقة الأولى منه قبل أسبوع تقريباً على شبكة "نتفلكس" الأمريكية إلى قضية أخلاقية وقيمية أكثر منها قضية فنية وإبداعية، وأعاد هذا المسلسل الذي اشتركت فيه مجموعة من الشباب والشابات الأردنيين وبُثت منه لقطات ساخنة لم يعتاد عليها الأردنيون المعروفون كشعب محافظ على العادات والتقاليد، أعاد هذا المسلسل طرح السؤال الأزلي بشأن الحرية ومفهومها وحدودها، وهي قضية القضايا منذ فجر الحياة الإنسانية إلى يومنا هذا.
المشاهد الساخنة والألفاظ البذيئة التي تضمنتها اللقطات الترويجية للمسلسل استفزت غالبية المجتمع الأردني وكذلك المشاهد العربي والذي سارع إلى محاكمة المسلسل وتجريمه باعتبارة "رجس من عمل الشيطان"، وهي محاكمة أخلاقية بحتة سيطر عليها الغضب والرفض للقيم والمسلكيات التي باتت ثقافة أغلبية شباب هذه الأيام. وفي هذه المحاكمة سارع أغلبنا إما لإدانة مضمون المسلسل ومشاهده، وإما للدفاع عنه بحجة الدفاع عن الحرية وفي الحالتين تجاهلنا لحظة الحقيقة وكيفية التعامل معها ألا وهي أن المجتمع الأردني، وكما كل المجتمعات العربية الحديثة لم يعد لوناً واحداً لا قيمياً ولا أخلاقيا ولا حتى ثقافياً، كما كان عليه الحال في الثمانينات والتسعينيات من القرن الماضي، وأنه وبكل أسف دخل مرحلة ضياع الهوية الثقافية والقيمية وتحديداً جيل الشباب الصاعد، الذي لا يعرف عن تاريخه القريب أو البعيد إلا القليل القليل، ووجد في الثقافة الغربية – الاستهلاكية القائمة على ركيزتين اثنتين البديل الجاهز والنقيض الجاهز. والركيزتان هما: تغييب اللغة العربية من التعامل اليومي أو الاستخدام اليومي لدرجة باتت مقلقة جداً، واللغة كما هو معروف تعد الوطن القيمي والأخلاقي لأية أمة، والأهم أن لغتنا العربية هي لغة القران الكريم الذي يبقى على مر الزمن يشكل "مطلع النور" للبشرية حسب توصيف الأديب الكبير عباس محمود العقاد. أما الركيزة الثانية فهي الانبهار بالمسلكيات الغريبة من اللباس وأنماط الطعام والقاموس اللغوي المحكي مروراً بمسلكيات التعامل الاجتماعي ومناسبات الفرح والحزن وطقوسهما وصولاً للعلاقة مع العائلة وتحديداً مع الابوين والأخوة.
شكل مسلسل "جنّ" تحدياً ثقافياً من نوع جديد لم يخطر على بال أغلبنا حيث داهمنا من زاوية حادة وقاتلة ألا وهي زاوية لغة وثقافة وأخلاق الجيل الجديد من الشباب في الأردن والوطن العربي، وهو أمر يفرض علينا اللجوء لدراسة النمط الثقافي الذي حاول تقديمه "جنّ"، فهل هو يعكس ثقافة جيل جديد باتت منفلتة وبلا ضوابط ؟ أم هي مجرد صرعة حاولت "نتفلكس" اختراعها لعالمنا العربي لأهداف تسويقية وتجارية بحتة، أم أن القصة أكبر من ذلك، وهي استكمال الغزو الثقافي الذي ابتدأ ضد العالم العربي في منتصف السبعينيات من القرن الماضي والذي لا يراد له أن ينتهي إلا بتدمير البنى الاجتماعية والثقافية للامة العربية تحت عنوان براق وخداع اسمه "التحرر" و"الانفتاح "؟.
ان من واجبنا استخلاص ودراسة الأبعاد والنتائج المحتملة من كون المجتمع الشبابي في الأردن والعالم العربي يعيش بثقافتين لا اقول متناقضتين بل أسمح لنفسي بوصفهما بانهما متناحرتان، وهو وضع لا يتطلب قراراً من مدعي عام يجرم ويسجن من كتب النص ومن شارك بالتمثيل في المسلسل بل إن الأمر يتطلب من مراكز الأبحاث في الجامعات الأردنية تحديداً المسارعة في تقييم الصراع القيمي داخل جيل الشباب الأردني ومدى أثره على مستقبلهم، وعلى مستقبل ولائهم الوطني ومدى قدرتهم على العطاء والإنتاج في ظل الظروف الموضوعية المعاشة وتقديم خلاصة تلك الابحاث لصناع القرار من أجل أخذ القرارات المناسبة.
ليس صحيحاً على الإطلاق أن الانفتاح والتحضر هما في المشاهد الساخنة والألفاظ البذيئة والجنسية، فهناك أفلام ومسلسلات عربية بالمئات، إن لم تكن بالآلاف قدمت رؤيتها لمشاكل الشباب في المجتمعات العربية، وهي موضوع الحرية والجنس والدين ونجحت في إيصال ما تريد للمشاهد دون ابتذال إو إسفاف. ويحضرني في هذا المجال القصة القصيرة للأديب الكبير يوسف إدريس وهي قصة "بيت من لحم" والتي مُثلت كفيلم قصير ومسلسل تلفزيوني وعالجت العلاقة بين الجوع الجنسي والدين والقيم الاجتماعية وكيف ينتصر الجوع للجنس على القيم الأخلاقية المتوارثة والدين. والملفت أنه سواء في القصة أو المسلسل أو الفيلم غابت المشاهد الساخنة التي تثير الغريزة، وكانت الفكرة هي الحاضرة وهي أن الجوع الجنسي سمح للأم ولبناتها الثلاث أن يقمن علاقة حميمية "مع الشيخ الضرير" الذي تزوجته الأم بنصيحة من بناتها ليكون "رجل البيت" دون أدنى شعور بالخطيئة أو فعل الرذيلة أو تأنيب الضمير من الأم وبناتها!
24: