لم يعد مفهوم الشرق الأوسط التقليدي صالحا لمعطيات السياسة الجديدة،ولعل اخطر ما في الخريطة الجديدة ،التي يتصارع الكل عليها أن درجة التشرذم والأنقسام والتفكك، بأن السياسة قد تكون أكبر ،ففي خريطة سايكس وبيكو تم اعتماد عامل الدولة القطرية القومية ،أما اليوم فالعامل الذي يحكم هو الدولة القطرية المذهبية أو العرقية،ولو نظرنا لهذا الصراع فقد يأخذ شكل الدوائر المتدرجة ،حيث تغطي الولايات المتحدة مصالحها الاستراتيجية بالكامل ،وتتسع مصالح روسيا لتشمل نفس المناطق التي تحاول الولايات المتحدة فرضها،والخطورة في هذه الدوائر التداخل مع دوائر النفوذ ،التي تسعى الدول الاقليمية المجاورة للسيطرة عليها ،فايران لم تعد منطقة الخليج العربي مجالها الحيوي الوحيد ،فتعدت مصالحها الحدود شرقا وغربا ،ولها تطلعاتها حتى البحر المتوسط من خلال تثبيت وجودها في سوريا ولبنان ،وشمالا العراق من خلال الحركات الموالية لها ،وجنوبا اليمن من خلال الحوثيين ،وأما تركيا فأطماعها واضحة في شمال العراق وشمال سوريا وعيونها على منطقة الخليج الاستراتيجية التي تعد المنطقة أو الأقليم الأساسي في الخريطة الجديدة من خلال قطر ناهيك عن أطماع اسرائيل في المنطقة .
هذا الاستهداف الاقليمي والدولي للمنطقة العربية يحتاج الى تحرك عربي قوي وفاعل لمواجهته ،ويحتاج الى اعادة صياغة المظومة الأمنية العربية.
مع ذلك تم خلط الدين بالسياسة في المنطقة العربية ليؤدي الى تشويه الدين وتدمير السياسة، وهذه النتيجة ليست محصورة في العصر الحديث فقط ،بل مكررة تاريخيا بشكل مذهل ،ولاهي وقف على التاريخ الأسلامي فقط ،بل تتجسد في كل الثقافات والأديان ولأزمان .
عشرات التجارب السياسية الحالية والتي يمكن ادراجها تحت مسمى الاسلام السياسي ،تشمل تنظيمات سياسية حركية بتنوعات لا حصر لها ،ودولا وكيانات حديثة نشأت على أسس تحالفية مع قوى دينية منحتها الشرعية ،بل وايضا قوى عظمى انتبهت لفاعلية توظيف الدين بالسياسة ،كما هو الحال في الولايات المتحدة والغرب في افتعال وتأسيس قوى اسلامية ضد الاتحاد السوفياتي في أفغانستان وفي سوريا والعراق .
أما الفكر الانساني فانه ينظر الى العقل البشري بأعتباره ملكة خاصة بالانسان،وأداة حركة الفكر وباعثه على الفعل وانه جوهر التاريخ ومحركه،الذي يمدنا بالمعرفة وادراك المعاني الكلية .
ان هدف الفلاسفة هو رمي الحجارة في البرك الآسنة لتحريكها ،وبمعنى اخر تحريك الفكر وتحرير العقل من الاوهام والتخلص من اي سلطة معرفية ،تعمل على كبح لجام العقل النقدي ومحاصرته وجعله عاجزا عن تحفيز الفكر .
العصر الوحيد للمعرفة الصحيحة هو ان العقل البشري ،هو المصدر الوحيد للمعرفة الصحيحة ،وهو انبعاث الروح النقدية التحررية التي تخطت تشاؤمية العصور الوسطى ،واستخدام العقل لمناهضته التفكير الغيبي والاسطوري .
نعود للحضارة العربية فنقول بأن لكل حضارة فلسفتها،وعلومها الاجتماعية وآدابها وقوانينها وتشكل الملامح المميزة لهذه الحضارة أو تلك،وتساهم في تحقيق فاعليتهاوتقدمها من أجل سعادة البشرية .
بمراجعة وقائع التفاعل الحديث والمعاصر بين موروثات الحضارة العربية وفلسفاتها ،وجملة علومها العمرانية وبين مستحدثات الحضار ة الغربية وفلسفتها وجملة علومها الاجتماعية والمدنية ،يتبين أن تلك الوقائع أدت الى فقدان استقلالية العلوم العمرانية لمجتمعات الأمة ،ولم تكسبها وظيفة أوفاعلية تلك العلوم الحديثة المقتبسة .
في اللاوظيفة هي أنسب صفة لحال العلوم الاجتماعية ،في أغلب مجتمعات الأمة العربية في تاريخها الحديث والمعاصر ،منذ بدأت النخبة الحداثية في نقلها واقتباسها من المدارس الغربية قبل أكثر من مائة سنة ،وهذه الصفة الاوظيفية هي ما اسهب في بيانها أشمل التقارير الدولية في علم الاجتماع ،يصدر كل عشر سنوات تقريرمنظمة اليونسكو الصادر عام 2010 عن حال العلوم الاجتماعية في العالم ،وهذا التقرير أوجز الحال في عبارة عميقة الدلالة تقل في العالم العربي عدد كبير من الطلبة والجامعيين وذوي المواهب العالية في العلوم الاجتماعية ،لكن لا يكاد يوجد لديهم هدف محدد لبحوثهم .
لم تبتعد في هذا الحكم كل المراجعات النقدية التي قامت بها جماعة من المشتغلين بالعلوم الاجتماعية في بلادنا ،ومنها كتاب الاتجاهات البحثية لرسائل الدكتوراة في الجامعات العربية ، وهو عمل جماعي لعدد من اساتذة علم الاجتماع العرب ،وهو في مجمله شهادة شكوى واعتراف بفشل متعدد الأبعاد في تأسيس مدرسة مستقلة في العلوم الاجتماعية ،أو حتى في انجاز بحوث جامعية ذات قيمة أكاديمية ومستوفية للحدود الدنيا من المعايير العلمية والأعتراف نفسه تقريبا نجده في كتاب البحث الاجتماعي في قضاياه ومناهجه،ونجد الأعتنراف نفسه في كتاب الانتاج العربي في علم الاجتماع .
القاسم المشترك الأعظم بين تلك المراجعات والمسموح هو أن العلوم الأجتماعية بمختلف فروعها،تكاد تكون بلا وظيفة بمقياس التقدم الحضاري العام ،وأسباب هذه الحال المؤسفة متعددة وعللها مزمنة وترجع في أغلبها الى ظروف النشأة الحديثة للعلوم الأجتماعية .
لقد تم الانفصال بين العلوم الشرعية والعلوم الأجتماعية الأنسانية،من أوضح صور هذا الأنفصال الغياب شبه التام لنظريات موروثة عن منهجيات التأسيس الحديث للعلوم الأجتماعية والأنسانية ،ويشمل هذا الغياب أطروحات العلامة ابن خلدون مؤسس علم الأجتماع الحديث في جامعاتنا حضورا شكليا لرفع العتب لا أكثر .
د.سامي الرشيد
Dr.sami.al Rashid@gmail.com