دولة الرئيس .. وين الملايين؟!
المهندس عادل بصبوص
11-06-2019 04:00 PM
أصبح من المألوف كلما قامت الحكومة برفع أسعار المحروقات نتيجة إرتفاع أسعارها في الأسواق العالمية أن ينبري نفر من "الخبراء" للتأكيد مجدداً على حجم "الأرباح" الضخمة التي تحققها الحكومة من بيع مشتقات البترول في السوق المحلية والتي تفوق برأيهم الأرباح التي تجنيها الدول المنتجة للبترول نفسها، مثلما يرددون في مناسبات أخرى من أن حجم "أرباح" الحكومة من جمارك السيارت تفوق أيضاً أرباح الشركات الصانعة لها، وأن حصيلة هذه الأرباح وأرباح أخرى تجنيها الحكومة من ضرائب ورسوم مختلفة تبلغ عشرات المليارات من الدنانير، ويتساءل "الخبراء" أنفسهم بإستنكار عن مصير هذه المليارات في الوقت الذي يعاني الناس فيه من الفاقة والجوع وإنعدام الخدمات، وتفتقر البلد إلى أبسط مقومات البنى التحتية المادية والإجتماعية، ويجيبون بالتلميح حيناً وبالتصريح أحياناً أخرى بأن جل هذه المليارات تجد طريقها إلى جيوب الفاسدين "سارقي" قوت الشعب، لينعموا فيها فيما يعاني الشعب نفسه من البؤس والحرمان.
لقد نجح مرددوا هذه المقولات وغيرها الكثير، في تشكيل رأي عام قوامه أن الحكومة ليست أكثر من "شلة" تمثل طبقة من المتنفعين والفاسدين الذين لا هم لهم إلا زيادة الأسعار وفرض المزيد من الضرائب، إمعاناً في تعذيب رعاياها ومص ما تبقى من دمائهم، مما أوجد حالة غير مسبوقة من إنعدام الثقة بين الحكومة والشعب، لا تقتصر آثارها السلبية على إنعدام الأجواء الصحية الضرورية لإنجاح أعمال الحكومة وأنشطتها المختلفة، بل قد تطيح بالسلم والإستقرار المجتمعي الذي ما زلنا نتغنا بفضائله صبح مساء، الأمر الذي يستلزم التوقف مطولاً عند هذه المشكلة الآخذة بالتفاقم في ضوء النتائج غير المبشرة للسياسات المالية والضريبية للحكومة والتي أظهرت تراجعاً كبيراً في إيرادات الخزينة، وفي الإتجاه التصاعدي لأسعار البترول، الذي يضيق من خيارات الحكومة ويبقى الباب مفتوحاً أمام فرض ضرائب جديدة مع مزيد من الإرتفاع في الأسعار.
يرفض الناس قرارات الحكومة الصعبة المتعلقة بالأسعار والضرائب لأنها برأيهم غير ضرورية وغير مبررة، وتتمسك الحكومة بها وتحاول فرضها كونها ضرورية وملحة ولأنها الخيار الوحيد المتاح لتفادي الأسوء، وجهتا نظر متضادتان ومتعارضتان، بقاؤهما كذلك مؤشر واضح على خلل وخطأ جسيم، فإذا كانت الحكومة غير صادقة في مزاعمها فلعمري تلك مصيبة، وإن كانت تقول الصدق وتتقاعس أو تتلكؤ في إثباته فالمصيبة لا بل الكارثة عندها أشد وأعظم، ذلك أن القضية حسابية منطقية لا علاقة لها بالغيبيات أو الإجتهادات ولا تحتاج إلى كثير من العبقرية والدهاء، وأبسط ما يمكن للحكومة أن تفعله إذا أرادت أن تقنع الجمهور بوجهة نظرها هو أن تتحلى بقدر كبير من الوضوح والشفافية والدقة وأن تبين للناس أين تذهب الملايين لا بل المليارات التي تجنيها من الضرائب والرسوم، ألا تدير الحكومة مئات المدارس التي يتعلم فيها مئات الآلاف من الطلبة، بكلفة حوالي (100) دينار سنوياً للطالب الواحد لا يدفع منها الطالب إلا النذر اليسير، ماذا عن عشرات المستشفيات ومئات المراكز الصحية التي تقدم الخدمات الصحية شبه المجانية لغالبية المواطنين في مختلف مناطق المملكة، أليست الدولة هي الموظِف والمستخدِم الأكبر الذي يوفر فرص العمل لمئات الآلاف من الموظفين بعضهم لأسباب إنتاجية ضرورية وآخرين لأسباب إجتماعية معروفة، ماذا عن خدمات المياه والكهرباء التي تصل الجميع بإنتظام، ألا تدفع غالبية الأسر فواتير مياه ربعية (ثلاثة أشهر) تقل عن (20) دينار، وهو مبلغ يقل عن كلفة صهريج مياه واحد بسعة لا تزيد عن (10) م3 فقط، ماذا عن ... وماذا عن ..... وماذا عن ....؟؟؟!!!!.
إن الإستمرار في إتساع الهوة بين الحكومة والمواطنين، هي مشكلة كبيرة لا تقل خطورة عن الاوضاع الإقتصادية الصعبة نفسها، ومعالجتها أولوية قصوى تتقدم على كثير من الأنشطة والبرامج الحكومية التي فشلت في تحقيق أي فرق على أرض الواقع، إن الإكتفاء برسم بياني او إنفوغرافيك على موقع الحكومة الإلكتروني، يبين تفاصيل إيرادات الحكومة وأوجه إنفاقها لا يحل المشكلة، فالموضوع يحتاج إلى حملة ضخمة مدروسة لإعادة تشكيل الرأي العام قوامها الصراحة والصدق والموضوعية، والأمر يتطلب تسخيراً كاملا لكافة الوسائل الحديثة التي تتيحها التكنولوجيا المعاصرة ذات الكفاءة والفاعلية العالية، ولا ينفع في هذا المجال ما يتحفنا به الناطقون الرسميون للحكومة بين الفينة والأخرى، فالامر يتطلب قدرات ومواهب وإمكانيات مختلفة لا تتوفر لديهم، على أن يتزامن ذلك كله مع ترشيد تام في الإجراءات وقبل ذلك الإستمرار في مكافحة الفساد مع ضبط الإنفاق غير المبرر وأن يبدأ المسؤولون بأنفسهم، بغير ذلك ستبقى الامور تراوح مكانها، وسيأتي يوم نجد انفسنا جميعا نواجه سيناريوهات بالغة السوء، هل ما زال أحد يذكر تصريح وزير المالية السابق، بأن عدم تنفيذ الإصلاحات المطلوبة سيؤدي إلى عجز الخزينة عن دفع الرواتب للموظفين، تخيلوا أن يحدث مثل هذا الكابوس لا قدر الله.
حفظ الله أردننا الغالي من كل مكروه.