التواجد المسيحي في الشرق الأوسط
د. عبدالله صوالحة
10-06-2019 12:18 PM
مرعبة وصادمة هي الأرقام التي تتحدث عن عدد المسيحيين الذين ما زالوا يعيشون في الشرق الأوسط مقارنة مع أعدادهم في السنوات العشرين الماضية في الحد الأدنى أو مقارنة بأعدادها في مطلع القرن العشرين على المدى الأبعد ، المؤرخ فيليب حتي يقول ان نسبة المسيحيين في سوريا والعراق عند نهاية الدولة الأموية 750 ميلادية كانت في حدود 80 % الجزء الأكبر منهم كانوا عربا ، وتشير المعطيات إلى أن نسبة المسيحيين في الشرق الأوسط كانت 25% عام 1900 بينما تناقصت اليوم لتصل الى الى اقل من 4% .
الأسباب التي دفعت المسيحيين للهجرة من بلدان الشرق الأوسط متعددة تتراوح بين تراجع الظروف الاقتصادية والاجتماعية وبين صعود التيارات المتطرفة والأضطهاد الديني الذي مارسته الجماعات التكفيرية، لكن الأهم من ذلك هو معاداة الأقليات وغياب مناخات التسامح والتعددية ، ان اخطر مؤشر يمكن قراءته من تلاشي الوجود المسيحي في منطقتنا هو التراجع في قدرتنا كمسلمين على تقبل الآخر وفقدان خاصية التنوع التي صبغت مجتمعنا الإسلامي لعدة قرون.
هناك ثلاث سياقات يمكن العمل من خلالها على الحفاظ على ما تبقى من المسيحيين في الشرق الأوسط وايضاً محاولة اعادة من تهجر منهم بسبب الحرب في سوريا والعراق ، ولا تتصل المسألة بالأرقام والأعداد بقدر ما تتصل بترسيخ الإرث المسيحي ومساهمته الفعالة في صوغ الثقافة العربية وتشكيل الهوية العربية .
اولا : السياق المحلي، يمكن للدول الشرق اوسطية اعادة صياغة دساتيرها أو تعديلها بحيث تنص صراحة على حقوق المسيحيين كأفراد وكنائس وأن يتم معالجة عشرات السنين من التمييز الذي عانى منه المسيحيين الى تمييز إيجابي بحيث يتم منحهم سلطات أكبر من حجمهم ولفترة مؤقتة من أجل استعادة " الازدهار المسيحي"، كما يمكن أيضا تعديل القوانين والتشريعات لضمان نسبة مشاركة سياسية اعلى ، وينبغي ايضا تعديل مناهج التعليم في المدارس والجامعات بحيث تأخذ في الاعتبار وجود الديانة المسيحية كجزء أساسي من منظومة القيم والتعليم . اضافة الى تبني خطاب إعلامي وسياسي وديني أكثر اعتدالا تجاه الآخر ومحاربة مظاهر الإقصاء والتكفير
ثانيا : السياق الإقليمي بحيث تتضمن أية ترتيبات إقليمية في الشرق الأوسط التزام الأطراف المعنية بالحفاظ على حقوق المسيحيين وتعويضهم عن الأضرار التي لحقت بالممتلكات الخاصة وبأملاك الكنائس وإعادة بناء مجتمعاتهم ثقافيا ودينيا وتمكين المجتمعات المحلية للمسيحيين في المدن السورية والعراقية اقتصاديا وإعادة الخدمات الصحية والتعليمية .
ثالثا : السياق الدولي، يتوجب على المجتمع الدولي ودول الغرب خصوصا التوقف عن تشجيع هجرة المسيحيين إليها والعمل بدلا من ذلك على تثبيتهم وإعادة تمكينهم ، وأن تتضمن المساعدات المالية الممنوحة للاجئين والمجتمعات المضيفة لهم برامج خاصة لتمكين المجتمعات المسيحية المحلية. من ناحية اخرى على المجتمع الدولي العمل مع حكومات الدول في المنطقة لحثها على تبني سياسات تعزز من احترام حقوق العبادة للأقليات واشتراط وتقييد بعض المساعدات الخارجية بتحقيق تقدم على حالة حقوق المسيحيين ، اضافة الى العمل مع منظمات المجتمع المدني في الدول المعنية .
في الأسبوع الماضي كانت لي فرصة اللقاء مع مدير مكتب الحريات الدينية الدولي في وزارة الخارجية الامريكية بواشنطن وقد اطلعت على نشاطات هذا المكتب والتي من أهمها إصدار تقرير سنوي حول الحريات الدينية في العالم ، وكذلك تخصيص 20 مليون دولار سنويا لحماية الأفراد من الاضطهاد الديني وتمويل برامج لتعزيز الحريات الدينية تطبق بالشراكة مع منظمات غير حكومية حول العالم ، وهذه فرصة للأفراد والمنظمات المحلية في دول الشرق الأوسط للتقدم والحصول على تمويل البرامج التي تعنى بتمكين المسيحيين في المنطقة .
التحدي الماثل أمامنا اليوم هو الحفاظ على الوجود المسيحي كمكون أساسي في نسيجنا الاجتماعي والثقافي ، ولا نتمنى أن نخسر الطوائف المسيحية في بلادنا كما خسرنا الأقليات اليهودية في كلا من مصر وسوريا والعراق واليمن ولبنان، ولا ننسى أن الأدب العراقي كتب على يد الأدباء اليهود وإن أفضل وزير مالية للعراق في القرن العشرين كان يهوديا وإن من صك مصطلح " مصر للمصريين " كان يهوديا وإن مجمع اللغة العربية في القاهرة كان يضم في عضويته حاخاما يهوديا سنة 1933 ، أما الإسهام المسيحي في حضارتنا الاسلامية فحدث ولا حرج.
التنوع الثقافي والعرقي والديني يجب أن يكون مدعاة فخر لنا كمسلمين وقدرتنا على احتضان الاخر والسمو به ومعه هو مصدر قوة وإثراء ، فهل ننسى تاريخا طويلا من التسامح والعيش المشترك ، وهل نقبل بوقوع هذا الخطيئة التاريخية المتمثلة بتلاشي المسيحيين .
Mutaz876@gmail.com