يتوافد الكركيون في العيد من أرجاء المملكة، ومن بلاد الاغتراب؛ فلا يحلو العيد بعيدا عن الكرك. يتبادلون الزيارات، وتحلو الجلسات، وتمتزج مناسبات أخرى بالعيد، ويتداخل الفرح بالترح. وتجد نفسك تنتقل من أجواء الى أخرى، تجمع بينها روح التآلف والمحبة والمشاركة والمواساة .
**
في كل جلسة يجري الحديث عن هموم الكرك المحلية المعتقة والعميقة مع البطالة، والبحث عن فرص للأمل والعمل للشباب. فجامعة مؤته وأخواتها من الجامعات الوطنية والعربية والعالمية، تخرج أفواجا من الكركيين المتطلعين الى وظائف حكومية أصبحت نادرة وشحيحة، في ظل غياب القطاع الخاص عن المحافظة، كجهة تشغيل.
*
ويتساءل الكركيون متى تصلنا بركات جذب الاستثمارات العربية والأجنبية؟ ويتساءلون أين يذهب الشباب المؤهل؟ فالمدينة الصناعية تتضاءل فيها فرص العمل، ويتقلص عدد المصانع العاملة فيها. ويتساءلون عن المسؤولية الإجتماعية للشركات والمصانع الكبرى في المحافظة ومحيطها، وماهي برامجها لتأهيل وتشغيل الشباب؟ وماذا فعلت لمواجهة معضلتي الفقر والبطالة؟ وأين أنفقت مئات الملايين سوى على طرود الخير في رمضان، وبناء قاعات ودواوين للعشائر؟ ويساءلك الكركي أين صندوق تنمية المحافظات؟ وأين المشاريع التي مولها الصندوق؟ وكم عدد فرص العمل التي أثمرتها؟ وأين القروض والمنح، التي ضختها جيدكو في مشاريع كان يفترض أن تسهم في خلق فرص عمل لأبناء المحافظة؟ يساءلك الشباب الكركي، أين تبخرت تلك المشاريع؟ وهل جرت عملية تقييم حكومية شفافة ومنهجية لها، والإفادة من الاخفاقات والبناء على النجاحات، إن وجدت؟
**
و يصدمك الشباب الكركي وهم يتساءلون؛ هل في ظل انعدام فرص التوظيف والتشغيل من فرص حقيقية لريادة الأعمال في الكرك والجنوب؟ أم من الضروري الهجرة الى العاصمة؟ حيث يكثر الحديث فيها عن ريادة الأعمال، وهذا مصطلح يبدو غريبا في بيئة كركية تزخر بالتحديات، التي تقول الحكومات أن على الشباب تخليق الفرص من بين ثناياها.
***
وفي الكرك ولع تاريخي بالجندية، و متابعة حثيثة لبرامج التجنيد في الجيش والأجهزة الأمنية، فهي بوابة الأمل المشرعة أمام الشباب، في حين تبقى الشابات في انتظار يطول ويطول لاختبارات ديوان الخدمة المدنية بعد ربع قرن من التخرج، أو يزيد!!
**
يسألك فتى يتهأ لامتحانات التوجيهي، ماذا تنصحني أن أدرس بعد النجاح والتفوق، بما يكفل وظيفة؟ فتحار كيف تجيبه وكل الفرص المتاحة أمامه، تتعلق بتخصصات مشبعة لا تفضي سوى الى البطالة. هل تشير عليه بالتوجه نحو التعليم التقني والتطبيقي؟ لكن أين هو بصورته الحقيقية في الجنوب؟
***
في كل بيت تسمع الشكوى من تراكم فواتير الكهرباء والديون والقروض والاقساط، والارهاق من رسوم الجامعات. ويتندر الكركيون ليت العام كله رمضان؛ لنشعر بحنان الحكومة، فتتأجل أقساط الديون الحكومية والبنكيه. ولا يتمكن جباة الكهرباء من قطع التيار. وتنشط المؤسسات الخيرية في مساعدة المعدمين والمعوزين. وتتبارى المؤسسات الشبابية والثقافية في تنظيم الانشطة والبطولات.
لكن الهم الكركي مع العطش حاضر بقوة، والناس يتبادلون الأحاديث عن أسباب عطشهم. ويعيدون الأمر الى سوء الإدارة، وتعطل آبار عدة، وتراجع برامج اعادة التأهيل والصيانة والتحديث للآبار والخطوط الناقلة وشبكات التوزيع في المحافظة، ويستذكرون سنوات قليلة فائته تراجعت فيها حدة المشكلة، لكنهم يعودون الى ذاك النوع من العطش، الذي خبروه قبل عقد من الزمان!
****
في الكرك حديث عن انتخابات نيابية ولا مركزية وبلدية، باتت على الأبواب. وهناك حسرة على فرص ضاعت، وتهيوء لفرص قد تكون واعدة قادمة، وهناك تقويم لنواب ومجالس وأشخاص ومواقف وتجارب، وعزم على التعلم. وهناك ثمة خشية من دور مسموم للمال السياسي مجددا، وخوف من استثمار حاجات الناس وفقرهم. الأمر المفرح ما تلمسه في أوساط الشباب من اصرار على امتلاك زمام المبادرة، واحداث قطيعة مع تجارب وممارسات انتخابية سوداء كانت تفرض نفسها على المشهد الانتخابي الكركي.
***
في الكرك قلق من تفشي ظواهر دخيلة تتصل بالمخدرات والإدمان. وفي الكرك معاناة مع حوادث السير المرعبة على الصحراوي. و ثمة حرص واضح على تبادل المعلومات والنصائح لاساليب التعامل مع معضلات الصحراوي والتقليل من مخاطره. وهناك توق للحظة الانتهاء من اعادة بناء الطريق، وشكوى من ضعف الاحتياطات واجراءات السلامه العامة المتخذة عليه الآن، وخيبة أمل من الغاء تنفيذ المسرب المخصص للشاحنات، فيصفون المشهد؛ "كأنك يا أبو زيد ما غزيت".
****
وعود على بدء، يبقى نبض الكرك معبرا عن انشغالات الوطن والأمة. وفي الحديث الكركي متابعة لما يجري في المنطقة العربية، واحاطة تامة بالهموم والملفات الوطنية. وفي تفاصيل اللقاءات والجلسات يجري التعليق بسخرية وتهكم لاذع على ما يتدفق عبر الهواتف الذكية من معلومات وأخبار وطرائف واشاعات، وبروح نقدية تنعقد تمارين التحليل المفتوح للأحداث والأخبار.
وفي الكرك قدرة على التمييز بين الغث والسمين، ولدى الناس باروميتر دقيق يقيمون فيه القرارات والسياسات والأشخاص والمؤسسات، وفقا لدرجة قربها أو بعدها من المصلحة الوطنية، والانتماء للأمة، والموقف من حقوقها وقضاياها. و للكرامة الوطنية درجة متقدمة في الباروميتر الكركي. ولدى الجميع معاييير دقيقة وشفافة في الموقف من المشاريع والطروحات، التي تمس الأردن، الوطن والدولة والهوية، و لا ينفصل ذاك عن ما يتصل بفلسطين، والحقوق المشروعة للشعب الفلسطيني، والدولة الفلسطينية، والقدس العاصمة، وحق العودة. واذا كان بيتر جوبسر يرى أن الكركي مولع بالقتال، فان الكركي في الحقيقة مولع بالكرامة. كرامة الوطن وكرامة الأمة. إذ تشعر في الكرك بأنك في مكان تتجسد فيه هموم الوطن والأمة، في لحظة تكثيف لا تخبو قليلا الا لتعود للاشتعال بقوة.
*****
وفي الكرك وطنية فطرية تلقائية أصيلة، فلا تسمع صخبا ادعائيا واستعراضيا لتأكيد المؤكد من الولاء والانتماء، لكنك تعيش هذه العناوين دما يجري في العروق، ونبضا تحياه القلوب، وأنفاسا لا تستقيم الحياة بدونها.
ولا يكترث الكركيون بكل المآلات إن تم حفظ متطلبات السيادة والكرامة الوطنية والانتماء للأمة، ولا يدمن الكركيون سوى على الكرم والديون والجندية والاستخفاف بتصاريف الزمان. ففي الكرك قلاع تحيط بالقلعة وتعلوها وتتفوق عليها تجذرا وشموخا. و لا يخطر ببال أحد في عالية الجناب التعاطي بجديه مع خيارات الصالونات المخملية في العاصمة، و لا وجود في القاموس الكركي لمفردات أو مترادفات تجافي بناء الذات الوطنية المنصهرة بالمكان والزمان والمستقبل. ولا يقف كركي واحد مترددا في دعم لاءات جلالة الملك الثلاثة، ولن تجد في قلاع الكرك البشرية من لا يؤمن بأولوية الناموس الوطني على ارقام الدعم الشقيق والصديق، إن مست طرف رداء الوطن الفضفاض الناصع العروبة والأردنية.
انه العيد الكركي بمذاق الكرامة الوطنية...