نحو إطار وطني شامل لمجابهة البطالة
د. سامر إبراهيم المفلح
08-06-2019 10:23 PM
أشارت بيانات مسح قوة العمل الذي تجريه دائرة الإحصاءات العامة إلى أن معدلات البطالة ارتفعت إلى 19% في الربع الأول من العام 2019 وهي معدلات قياسية لم تشهدها المملكة لما يزيد عن ربع قرن من الزمان، ومع تصدّر موضوع البطالة قائمة المواضيع الاقتصادية الأكثر أهمية في الفترة الأخيرة، لا بد من التمعن في مفهوم البطالة وأشكالها والحلول لمعالجتها من الناحية النظرية، ومن ثم تقديم المقترحات العملية للتجاوب معها بما ينسجم مع السياق الخاص بالمملكة.
وتُعرف البطالة بأنها حالة يوصف بها الشخص القادر على العمل وراغب فيه، ويبحث عنه، ولكن دون جدوى، وبحسب النظرية الاقتصادية فهناك أشكال وأنواع مختلفة للبطالة تتباين بحسب المُسبب والخصائص، كما تقترح النظرية الاقتصادية أساليب مختلفة للتجاوب مع كل نوع منها، ومع تعدد أنواع البطالة وأشكالها إلا أن هناك ثلاثة منها رئيسية ترد صراحة في جميع المراجع تقريباً المتعلقة بأبجديات الاقتصاد الكلي.
النوع الأول من البطالة هو البطالة الدوريّة "Cyclical Unemployment" والتي ترتفع وتنخفض معدلاتها بحسب الدورة الاقتصادية، فعند وجود معدلات نمو مرتفعة تكون البطالة الدورية في أدنى مستوياتها، ولكن في حالات الركود والتباطؤ الاقتصادي وانخفاض الطلب الإجمالي تزداد معدلات البطالة بشكل كبير، مما يستدعي إجراءات حكومية لتحفيز الاقتصاد وزيادة الطلب.
ومن الأمثلة على تفاقم البطالة الدورية ما حدث في فترة الكساد الكبير خلال ثلاثينات القرن الماضي في الولايات المتحدة، وبلغت معدلات البطالة في وقتها 25%، ودخل الاقتصاد الأمريكي في حينها مرحلة الركود التضخمي، وقد لجأت الحكومة الأمريكية إلى التوسع الكبير في الإنفاق الرأسمالي لزيادة الطلب وتحفيز الاقتصاد وتوفير فرص العمل للتجاوب مع الركود الحاصل، حيث يُنسب هذا النموذج الاقتصادي إلى "جون مينارد كينز" مؤسس الاقتصاد الكلي الكينزي.
النوع الثاني الرئيس من أشكال البطالة هو الاحتكاكية "Frictional Unemployment" وتسمى أحيانًا بطالة البحث عن عمل، وهي تنتج عن ترك الموظفين وظائفهم القديمة؛ للانتقال أو البحث عن وظائف جديدة، ويتخلّى أغلب الموظّفين في هذا النّوع من البطالة عن وظائفهم طواعية، كما تعاني من هذا النوع من البطالة السيدات في بعض الدول اللواتي يضطررن إلى العودة إلى سوق العمل بعد الخروج منه بسبب الولادة والبحث عن عمل جديد.
ويمكن التقليل من أثر هذا النوع من البطالة عن طريق خدمات إيجاد الوظائف المقدمة من خلال مراكز العمل الحكومية أو شركات التوظيف، أو عن طريق التقليل من منافع التعطل في بعض الدول، إذ تشجع هذه المنافع الشخص بالتعطل لفترة أكبر لحين إيجاد فرصة عمل قد تكون تناسبه بشكل أكبر، وهذا النوع من البطالة لا ارتباط بينه وبين زيادة الإنفاق الحكومي أو الوضع الاقتصادي للدولة بشكل مباشر.
الشكل الرئيس الثالث من أشكال البطالة ما يُعرف بالبطالة الهيكلية "Structural Unemployment" وهي البطالة التي تظهر بسبب تغير في هيكلية الاقتصاد وتحولاته، مثل تحول الاقتصاد من الزراعة إلى الصناعة، أو التطور التكنولوجي إذ يصبح جزء من العمالة غير مؤهل للتطورات الجديدة ويشكلون فائضًا في سوق العمل، كما أن عدم الترابط بين مخرجات التعليم والمعارف والمهارات المطلوبة في سوق العمل يسبب البطالة الهيكلية، فهي تنتج ببساطة عن عدم تطابق المهارات بين الباحثين عن العمل والوظائف المتاحة.
ومعظم السياسات الرئيسة المرتبطة بالبطالة الهيكلية متعلقة بالتدريب والتعليم المناسب للباحثين عن عمل لتأمينهم بالمهارات والمعرفة المطلوبة في سوق العمل، كما قد تلجأ بعض الدول إلى تقديم بدلات للتنقل والسكن لمدن أخرى تتواجد بها فرص عمل ضمن المهارات التي تتوفر لدى الباحثين عن عمل.
بالإضافة إلى أشكال البطالة الرئيسة الثلاثة، هناك أشكال أخرى من البطالة توردها النظرية الاقتصادية مثل البطالة الطبيعية، والبطالة الموسمية، والبطالة الطوعية، والبطالة الكلاسيكيّة، والبطالة المقنعة، وغيرها من أشكال البطالة المتعددة، ولهذا فإن السياسات والإجراءات التي تتبعها الدول تختلف بشكل كبير للتناسب مع أشكال البطالة التي تواجهها.
هذه السياسات على سبيل المثال لا الحصر قد تتضمّن سياسات التحفيز الاقتصادي في حالة البطالة الدوريّة سواء أكانت سياسات مالية متعلقة بمعدلات الضريبة على المستوى الكلي أو الجزئي لتحفيز قطاعات مستهدفة، أو سياسات مالية متعلقة بالإنفاق الحكومي لتعويض النقص الحاصل في الطلب الإجمالي، أو تقديم حوافز لقطاعات اقتصادية مستهدفة.
كما أن السياسة النقدية كمعدلات الفائدة يمكن تطويعها لمجابهة البطالة الدورية وتحفيز الاقتصاد، ويمكن أيضًا للسياسات المرتبطة بالتجارة الخارجية وتحفيز الصادرات من خلال التعرفة الجمركية، أسعار الصرف، اتفاقيات التجارة الحرة، قوانين الاستثمار، التأثير بشكل كبير على البطالة الدورية.
بينما تتطلّب البطالة الهيكلية على سبيل المثال توجيه سياسات الإرشاد التعليمي، وسياسات وبرامج التعليم والتدريب للتجاوب مع احتياجات سوق العمل، أو قد تستلزم فتح أسواق عمل غير تقليدية أمام المتعطلين وحرية التنقل والإقامة للأفراد، أما البطالة الاحتكاكية فقد تقتضي توفير خدمات التوظيف والمواءمة بين العرض والطلب في سوق العمل، وهناك حلول أخرى لمجابهة البطالة تتضمّن سياسات تشجيع الريادة، وسياسات معدلات الأجور، وسياسات مرتبطة بتنظيم العمالة الوافدة، وبرامج التشغيل لتقليل الفقر والبطالة، ودعم الزراعة، ودعم الصناعة، وغيرها من السياسات.
لا شك أن اتباع أي سياسة أو مجموعة سياسات للتصدي للبطالة يتطلّب أن تنسجم السياسات والحلول المقترحة مع أنواع البطالة التي تواجهها الدولة، وبما يستجيب لخصائصها الاقتصادية والاجتماعية والجغرافية وأولويات عملها حسب استراتيجياتها ونظرتها المستقبلية للخروج بإطار وطني شامل لمجابهة البطالة، وأن يكون مبنيًا على تشخيص علمي ضمن الأدوات المتاحة التي تستطيع الدولة توفيرها.
وهي بالضرورة لا تقتصر على سياسات سوق العمل المتعلقة بمعدلات الأجور، وتنظيم سوق العمل، والمواءمة بين العرض والطلب فقط، بل تمتد لتشمل مجموعة متكاملة ومنسجمة من السياسات المالية، والنقدية، والسياسات المرتبطة بالصناعة والتجارة والاستثمار، والتعليم المدرسي، والتعليم الفني والتقني والعالي، والسياسات الاجتماعية بما فيها التأمينات الاجتماعية والضمان الاجتماعي، والسياسة الخارجية، وسياسات أخرى قد تشمل قطاعات الأشغال العامة، والزراعة، وتكنولوجيا المعلومات والاقتصاد الرقمي، وغيرها من السياسات الموجهة بعناية فائقة من قبل الحكومة للتقليل من حجم وأثر البطالة.