في لندن، يستدعي امتداد الحضارة التي يطغى حضورها على كل تفاصيل المدينة، الوقوف على أسباب النكوص التي أعادتنا أمماً من الدرجة الثانية والثالثة أحيانا، وسخّرتنا لتبديد سنين العمر بحثاً عمّا يتنعّم فيه أهل هذه المدينة وما تلاها من حقوق ورفاهية وعيش رغيد.
في الإمتداد الزماني لحضارات العرب، كان اغتراف أسباب الحضارة وأسباب العلم من الطب والترجمة وعلوم الفلك وغيرها، هو من قواعد أساسية ترسخت في تقديم المشروع النهضوي على فكرة الفرد ومآثر الطغيان، فلمّا سجّلت هذه المبادىء تراجعا ونكوصاً، عُدنا نلاحق الاختراعات الغربية وتعظيمها والحفر عميقا في العقل العربي لغرس فكرة الرجعية والتخلّف، حتى نمت وصارت غابة لا يمكن اجتثاثها بسهولة.
في بداية النصف الثاني من القرن الماضي، نشأت حركات قومية تبنّت الفكر الإشتراكي نهجا وسبيلا لقيادة الأمة، وتقدم حزب البعث العربي الذي نتج عن تآلف الحزب الاشتراكي بحزب البعث العربي لا العراقي ولا السوري، فصار اسمه حزب البعث العربي الاشتراكي، تقدّم طليعة هذه الحركات، بعد أن وجدت أفكاره مسارب واسعة في عقول الشعوب العربية، خاض على إثر ذلك تجربتين في السلطة، ربما لم يحن الوقت لتقييمهما ولبيان نجاحهما أو فشلهما، لكنها تجارب جديرة بالبحث والنقاش واستنباط الدروس المستفادة.
غير أن مشروع البعث وما سار في سيره من بقية الأحزاب القومية، وقعت في الفخ الذي عرقل التقدم، وأعاد فكرة الدولة العروبية ومشروع النهضة القومية، لخط البداية من جديد.
لقد كان هذا الفخ هو الصدام بين مشروع النهضة المعتمدة على استنباط قواعد البناء من تاريخ الحضارة العربية الإسلامية، وبين مشروع النهضة الذي اتخذ قطيعة مع التاريخ، ولم يؤمن بإنجازاته ولا بشواهد حضارته، واعتمد أساساً على مبادىء عالمية عامة تقصي في مجملها أرشيف الحضارة العربية الاسلامية.
بينما تأخر كثيرا نشوء الحركات التي اتسمت بالقومية وارتبطت بمشروع النهضة العربية، كانت الثورة العربية الكبرى قد سجلت مبادئها بحروف ذهبية، حين حملت شعار النهضة مبكّرا، وانطوى تحت لوائها مفكرو الأمة وأعيانها، واستمر الهاشميون في رفع رايتها وقد كانوا في المسيرة وحدويون وقوميون، صنعوا مكاناً بارزا لا يمكن إنكاره وشواهده احترام العالم لهم.
لكننا ما زلنا صنائع وثمار لذاك الفخ العميق المحكم، وعلى الأمة إذا ما حلمت بنهضة جديدة، أن تستند على تاريخها المضيء، بدلا من إستمطار السياسة العالمية على أرض تتشبع بدماء الشهداء ومواطىء الأنبياء، وهما كفيلان وحدهما بإنضاج قمح النهضة وخبزها وإدامها.
مؤلم حد العذاب المشهد العربي البائس. أعني تلك المقاربة غير المعقولة، مع شعوب حازت على احترام العالم حين سخّرت حكوماتها لصنع رفاهية في كل شىء، وبين أولئك الذين تسفك دماؤهم لقاء كلمة وموقف وثمناً لجرأة وصوت مرتفع وسط سكون ذليل.
لا بأس بتهاوي الطغاة واحداً تلو الآخر. أنه اول الدم وغالبا ما يكون مبتدأ النصر، وسيخرج من حقول القمح المحترقة، "سنبلة لا تلبث أن تملا الوادي سنابل"، وبينما يرتكز تاريخ الأمة على أرض مباركة هي موطن الأنبياء ومهد الرسالات، فإن تطوّر الشعوب وحده هو الهدف، وأنه إذا ما تقدّمت الشعوب ونهضت، فإنه باستطاعتنا القول أننا نغذ الخطى للحاق بركب العالم المتقدم، وسيكون نهجنا في ذلك، الديمقراطية، والديمقراطية وحدها!