ينطبق على الوضع الفلسطيني تلك النظرية الشائعة في عالم السياسة والقائلة إن القوة موجودة حتى في أضعف الحالات، وهو الضعف القابل للتحول إلى مصدر للقوة بصورة أو بأخرى، وخاصة عندما يكون هذا الضعف حاملاً في جوهره بذور التفرد والتميز وغياب البديل.
على مدى سبعة عقود سعت واشنطن ومعها بريطانيا إلى إنهاء القضية الفلسطينية ومحو آثارها السياسية والاقتصادية والثقافية بل والإنسانية إلا أن هذه الجهات فشلت في تلك المهمة على الرغم من أنها تملك كل القوة السياسية والاقتصادية والعسكرية، فمنذ تأسست منظمة التحرير الفلسطينية عام 1964 وفقاً لمقررات قمة القاهرة كممثل شرعي للشعب الفلسطيني وتعزز هذا التمثيل بالإجماع العربي بالاعتراف بها كممثل شرعي ووحيد للشعب الفلسطيني وفقاً لمقررات قمة الرباط عام 1974 فشلت كل المحاولات والمخططات لتهميشها أو تجاوزها، وخلال هذا التاريخ الطويل من تجربة الإلغاء للمنظمة أو الاحتواء أو خلق البدائل كانت الفصائل الفلسطينية المنضوية في إطار المنظمة وبخاصة حركة فتح تنتفض على الجهة أو الجهات التي تتجرأ على محاولة المساس بشرعية التمثيل الفلسطيني ووحدانيته وكانت في أحيان كثيرة خلال الفترة من 1974 حتى 1983 تتناوب على مهمة إضعاف التمثيل الفلسطيني أو إضعاف شرعيته أو خلق بدائل لها جهات عربية "قومية"، بالإضافة لعناصر وقوى فلسطينية محلية مرتبطة بالاحتلال الإسرائيلي ومشروعه.
اليوم تسعى الإدارة الأمريكية الحالية إلى تمرير المشروع المسمى "صفقة القرن"، وفي ذهنها أن العامل الذاتي الفلسطيني الضعيف جداً يشكل اغراء لها من أجل تمرير هذه الصفقة بأقل الكلف الممكنة وبأكبر قدر من المكاسب لصالحها ولصالح إسرائيل وتحديداً لنتانياهو الذي يشكل هو الآخر بما يملك من تطابق تام مع ترامب وإدارته، عامل إغراء آخر لا يقل أهمية عن عامل الضعف الفلسطيني، إلا أن عراب الصفقة جاريد كوشنر، صهر الرئيس ترامب بات على قناعة بأن كل المحاولات التى جرت خلال أكثر من عامين لخلق ظروف موضوعية لتجاوز "النعم" الفلسطينية على الصفقة باءت بالفشل وأي محاولات قادمة يمكن خلقها لن تكون أاوفر حظاً. صحيح أن أبو مازن رئيس السلطة الفلسطينية ليس "ياسر عرفات" الذي واجه شارون بعد فشل كامب ديفيد 2 وبعد فشل مباحثات طابا، وليس لديه ذات الأدوات التي استخدمها "أبو عمار" بسبب عمق التنسيق الأمني مع إسرائيل منذ 2005 إلى اليوم، إلا أن قوة محمود عباس "كامنة ومستترة" في أنه هو فقط من يملك قرار التوقيع أو الموافقة على أي اتفاقية تخص القضية الفلسطينية ومستقبل الشعب الفلسطيني وأرضه ومقدساته وحقوقه السياسية، وهي حقيقة يدركها الإسرائيليون جيداً.
ومازالت تجربة الرئيس المصري الراحل أنور السادات مع الرئيس الامريكي جيمي كارتر في كامب ديفيد حاضرة في عقولهم، حيث شكل رفض ياسر عرفات المشاركة في مباحثات كامب ديفيد الأولى سبباً رئيسياً في عزل تلك الاتفاقيات عربياً ومقاطعة نظام السادات، أما التجربة الثانية فقد كانت في مؤتمر مدريد للسلام عام 1992 حيث اضطر الرئيس بوش للقبول بتمثيل فلسطيني من رحم منظمة التحرير وفصائلها مثل الدكتور حيدر عبد الشافي وصائب عريقات وحنان عشراوي وغيرهم، فيما اضطر الرئيس بيل كلينتون بعد مدريد للاعتراف بمنظمة التحرير والاعتراف باتفاق أوسلو بين المنظمة وإسرائيل وحرص على رعاية توقيع اتفاق أوسلو ودعوة كل من ياسر عرفات واسحاق رابين إلى البيت الأبيض في سبتمبر (أيلول) 1993 في حفل رسمي شكل وقتها حدثًا عالمياً مهماً.
24: