ما الذي يُعمِي بصيرة أمة العرب؟
ياسين بني ياسين
06-06-2019 02:58 PM
لقد أُصيبت الأمة العربية - في تاريخها الطويل - بمآسٍ ونكباتٍ ومصائبَ لا عد لها ولا حصر. لكن المأساة التي تصيبها الآن هي أثقلها وطأة، واشدها سوءًا، وأمضُّها ألما، وأكثرها مرارةً، وأسوأها نتيجة. فتاريخ الأمة وحاضرها ومستقبلها وكيانها كله في مهب الريح، بل هي جميعها في فم العاصفة.
وإذا لم يصحُ أبناء الأمة العربية قبل فوت الأوان - وقد بدأ الأوان يفوت سِرَاعًا، والأوان هذا لا ينتظر أحداً ولا يحفل بأحدٍ - فإن أمتهم جميعا مآلها إلى زوال: مُعْتَقَدًا وتاريخًا وعروبةً وموروثًا ثقافيًّا ومستقبلا، لا بل حياةً وبقاءً ووجودا ومصيرا. والله، سبحانه وتعالى، تكفَّل بحفظ "الذِّكرِ" ولم يتكفل بحفظ "الذَّاكِرينَ"، إلا إذا نصروه، سبحانه، وعندها فقط فإنه سينصرهم ويثبت أقدامهم.
لقد بدأت المأساة بداية حقيقية عندما شارك "بنو يعرب" بطرد الذي حافظ على وحدتهم، خمسمائة عام، ضد الأطماع الجشعة التي كانت تحاصرهم من كل جانب، طيلة تلك الفترة وقبل تلك الفترة. لقد كان ذلك، تحديدا، عندما وقف "بنو يعرب" - علانية - ضد ذلك الحارس الأمين وقفة الجهل والخنوع والتآمر. ومع من وقفوا تلك الوقفة!!؟ نعم! مع من!!؟ إنهم قد وقفوها مع الذي بدأ سكينُهُ - بل ساطورُهُ - يقطِّع المقطَّع من أوصالهم؛ يقطِّعها ودم أجدادهم الذين غُرِّر بهم كان ما يزال يسيل في جبهات القتال مع الإنجليز والفرنسيين ومن والأهم ضد ذلك الحارس.
نعم! لقد بدأت الطامة الكبرى عندما قَبِلْنا - جهلا وذلا وهوانا - بمخرجات اتفاقية العيب والخجل والعار التي صدرت عام ١٩١٦ م باسم سايكس-بيكو، ودفعنا عنها بدم الأجيال. لقد بدأت الكارثة الأبدية عندما غضضنا الطرف عن مخرجات وعد بلفور المشؤوم الصادر عام ١٩١٧ م، ذلك الوعد الذي أعطى فلسطين "زورًا وظلمًا وعدوانًا وبهتانًا وتجنِّيًا" لحثالات المجتمعات البشرية التي أتت من كل ماخور من مواخير الكرة الأرضية لتدنِّسَ أرضَ الطُّهرِ والشرفِ والقداسة.
هنالك بدأت المأساة، بل هنالك بدأت "أم المآسي". أجل! هنالك تجرعنا كؤوس السم الزُّعاف بمختلف أنواعه وألوانه وأشكاله ومصادره، وإن تساوت درجات سُمِّيَّتِه. ومع كؤوس السم هذه ها نحن ما زلنا نتجرع كؤوس الضِّعة والخنوع والهوان، يوما بعد يوم، ومناسبة وراء مناسبة. بل إننا نتسابق في هذا، وبكل أسلوب ممكن وكل وسيلة متاحة.
وبالرغم من الكوارث التي أرهقتنا وأغرقتنا جرَّاء ذلك التردي، وبالرغم من المآسي التي لحقت بنا جيلا بعد جيل وأذاقتنا مرارة الثكل واليتم والترمُّل نتيجة لذلك السقوط، فإننا ما نزال نحترب فيما بيننا ونتقاتل و"نتنافخ" بعضنا على بعض: مرة باسم الدين، ومرة باسم العروبة، ومرة باسم الشرف، ونحن براء منها جميعا، إن بقينا على هذه الحال.
ولكم يغيب عن بال الجهلة والمتواطئين منا، وهم كُثْرٌ (ولا أقول: "أكثرية")، أننا إنما نقتل أنفسنا وإخوتنا، ونمحو تاريخنا وحاضرنا، ونلغي مستقبلنا ومستقبل أبنائنا، نيابةً عن بني صهيون وتنفيذًا لأوامر "بني ماسون".
أستحلفكم بالله قولوا لي: هل بقي شيء نخاف عليه؟ ابناؤنا يُذَبَّحون؛ أوطاننا تمزق؛ مقدراتنا تنهب؛ كرامتنا تداس؛ ديننا يساء له بأيدينا وبأيدي أعدائنا، سواء بسواء. فعلامَ نخافُ، وعَلامَ سنخافُ، إذن؟
إلى متى سنبقى سادرين في غيِّنا، تائهين في وهمنا، غارقين في سباتنا العميق هذا؟ سبات الخنوع والهوان والتبعية والاستسلام! سبات التخلف والغباء والغفلة والجهل! كل هذا وأكثر وأكبر. وإن أفقنا من سباتنا، فإنما نفيق لنجد أنفسنا قد حرفنا بنادق دفاعنا عن أنفسنا وعن أوطاننا، وحولناها باتجاه صدور بعضنا البعض: وفلسطين تمزق، والقدس تهود، والأقصى يستباح، والمستعمرات تقام، والتاريخ يمحى أو يزوَّر، ودماء العروبة تسيل في كل مكان!!! ماذا أقول أكثر من هذا، وهناك الكثير الذي يمكن أن يقال؟