لم يكن المرحوم الشيخ سعود القاضي مجرد رقم عادي في تاريخ الأردن, ولا عابر سبيل مر على رمال صحراء الشمال, لكنه كان وشماً طبع تلك الفيافي بشهامته ونبله ورجولته وسماحته وكرمه, وكان لذلك موضع الاحترام والتبجيل عند كل من عرفوه, أو حتى من تناهت إليهم أخباره, وهو المولود في قرية جوشا, وقد تفتحت عيناه على فيافي لم تتميز بالخصب, وفي ظروف صعبة كانت تمر بها المنطقة, وهي تتحضر للتخلص من الاستعمار العثماني, الذي صبغ المنطقة العربية بالجهل, فلم يتمكن المرحوم من التعلم باستثناء أنه اتقن القراءة والكتابة في كتاتيب البلدة التي ختم فيها القرآن أيضاً, لكن ملكاته الخاصة علمته أكثر بكثير مما كان يمكن تعلمه في أرقى الجامعات.
سعود القاضي شيخ مشايخ بني خالد في الأردن, الراجعين بنسبهم إلى سيف الله المسلول خالد بن الوليد, وهم بذلك يجتمعون على أصل واحد مع أبناء عمومتهم من بني خالد المنتشرين في أراضي الجزيرة العربية والعراق وسوريا ولبنان. ولتثبيت هذا النسب الشريف كان الخوالد يذبحون في كل ربيع أول الذكور من مواليد أغنامهم كأضحية عن روح جدَّهم ابن الوليد. وكانوا إلى ما قبل ستين عاماً يتنقلون مع مواشيهم في منطقة تقع ما بين سهول إربد إلى المفرق ودرعا, حين تضيق بهم الحال ينتقلون إلى أواسط الجولان وشمال غور الأردن وصولاً إلى مناطق الحماد ووادي سرحان.
لكن طبيعة الحياة والتقدم المتزامن مع انشاء المملكة دفعهم إلى التحول, فبنوا المساكن بدل بيوت الشعر وحفروا الآبار لجمع مياه الشتاء وكانت بلدة حوشا حاضرة بني خالد وفيها كان علمها الشيخ سعود القاضي الذي سمي شيخاً للمشايخ عام 1942, بعد أن أصر شقيقاه الأكبرمنه كريم وقفطان أن يتولى زمام الأمور نظراً لثقتهما بما يتمتع به من ذكاء وفطنة وحسن تدبير للأمور, كان حرصه واضحاً في أن يتحول أبناء العشيرة إلى الحياة الفلاحية كخطوة أولى للاستقرار تليها خطوات مؤكدة بالتحول إلى الحياة المدنية من خلال التعليم وقد كان رائدا في هذا المضمار, فأوفد أنجاله إلى الجامعات لينالوا قسطهم من المعرفة والتعليم الأكاديمي بعد أن زرع فيهم قيم الفروسية والشهامة والكرم والتسامح.
وساهم الشيخ سعود بتشجيع أبناء العشيرة على التعليم, ورغَّبهم في دخول أبنائهم إلى المدارس, وتفرَّغ لخدمتهم والاتصال والتعاون مع إدارات الحكومة المختلفة من أجل تحسين أوضاعهم, وإيصال خدمات الصحة والطرق والمدارس والماء والكهرباء إلى كل قرية من قراهم, وتمكن بعد جهد من تحويل أبناء قبيلته إلى واقع الحياة المدنية العصرية, بفضل التحاق الكثيرين بالجيش العربي, وإقبال آخرين على المدارس التي انتشرت في كل قرية من قراهم التي وصلتها المياه النقية والكهرباء.
كان لابد لخدمات الشيخ من إطار يضعها في الدائرة الصحيحة, فرشح نفسه لمجلس النواب, وكان عضوا فيه مابين العامين 1954 و1963 ثم مرة أخرى في العام 1967 , ليتحول بعدها إلى عضوية مجلس الأعيان ليساهم مع العديد من الشخصيات الوطنية في أداء الخدمة العامة للوطن بعد أن أدى دوره كاملاً في خدمة أبناء عشيرته.
عرفت الشيخ سعود حين كنت طفلاً يرافق والده الذي كان مديراً لناحية الرمثا في زياراته لحوشا, ولاأدري إن كانت تابعة لناحية الرمثا أو المفرق, لكن ما أدريه انني كنت اشعر براحة لتلك الزيارات التي لم تكن تنتهي بغير منسف ضخم يتجمع حوله المقربون من بني خالد والمرحوم والدي الذي كان روى لي حكاية يمكن أن يرويها واحد من أبناء المرحوم الشيخ سعود بطريقة مغايرة لما اختزنته ذاكرتي من حديث الوالد الذي يقول إن بعض المتنفذين في الحكومة من أصحاب العقول المنغلقة والرؤية الضيقة ضيقوا على الشيخ الجليل بسبب انتماء أبناء له كانوا يدرسون في بغداد لأحزاب سياسية كانت ممنوعة في الأردن, وضاقت نفس الشيخ بهؤلاء الصغار فاشتكى لوالدي باعتباره صديقاً, وكان أن اقترح عليه الوالد أن يجمع عدداً من وجهاء بني خالد وأن يتوجهوا في عدد من السيارات إلى مركز حدود الرمثا, ولكن دون أن يوضح له السبب, واتفقا على موعد لذلك, وحين وصل ركب الشيخ ومعه رهط من وجهاء عشيرته, اتصل والدي بوزير الداخلية ليخبره أن الشيخ وأبناء عشائر بني خالد ينوون الهجرة إلى سورية بسبب الضغط الذي يتعرضون له, فما كان من الوزير غير الطلب من والدي أن يبذل كل محاولاته لثنيهم عن ذلك وإن تعذر الامر فاللجوء لمنعهم بالحسنى, عاد الشيخ إلى حوشا وبعدها بأيام دعي لمقابلة وزير الداخلية وعدد من المسؤولين وانتهى أمر التضييق عليه مرةً واحدةً وإلى الأبد, وأذكر جيداً أنه بعد تقاعد والدي وعودته للسكن في عمان أن الشيخ ظل دائم الاتصال به والسؤال عنه خاصة حين سمي عضواً في مجلس الأعيان.
سعود القاضي, في إهاب شخصيته القيادية تتجمع شمائل الشهامة والكرم والأريحية وبعد النظر وحب الخير, شجاع حين ينتخي, كريم ولو كان محتاجا, أردني حتى النخاع , يعشق تراب الوطن من الرمثا حتى العقبة, لايميز بين بقعة وأخرى,ولا بين أردني وآخر, مخزومي النسب يعرف مايرتبه عليه الانتساب لسيف الله المسلول من واجبات, وسيظل علامة فارقة موشومة على جبين صحراء الشمال تذكرنا بالأنفة والعزة والكرم والكرامة.