ما إن التقط المواطنون أنفاسهم بعد انفجار شبح صدامات عشائرية من الشمال إلى الجنوب، حتى انتقل القلق إلى المدارس الحكومية، بمجرد افتتاح الموسم الدراسي، فانشغل الإعلام بقصص مرعبة حول العنف المدرسي.
في البداية، تعاطفنا مع تلميذ جلد مدير المدرسة ظهره، وبدأ الإعلام يذكِّر بحرمة الضرب، حتى جاءت الأخبار الأسوأ بتعرض مُدرِّسين إلى الضرب والإيذاء والإهانة، وتكسير سياراتهم على يد طلاب وأولياء أمورهم في ذيبان والبادية الشمالية.
بالتزامن مع ذلك كان مواطنون في الطفيلة ينقضُّون على "كوخ أمني" يُشعلون فيه النار، مع أخبار حول استمرار ظهور عصابات السرقة "والخاوات" في مناطق وأحياء مهمّشة.
بقدر ما يكون من الخطأ تضخيم الظواهر الصغيرة والأحداث المنفردة إعلامياً وسياسياً (كما تُتهم الصحف من قبل أوساط رسمية!)، بقدر ما يمثل تصغير الرسائل، التي ترسلها أحداث تشترك في سمات معينة ودلالات محددة، خللاً كبيراً في قراءة المشهد، ويكون تجاهل السياق، الذي يجمعُها، نوعاً من الاختزال والسطحية المفرطة، وتحميل الأمن والدرك مسؤوليات تتجاوز البعد الأمني بكثير.
لو نظر أحدنا إلى المشهد العام لخرج بملاحظة، لا تقبل النقاش، في أنّ هنالك انفجاراً للعنف الاجتماعي، تغطس وراءه أزمة سياسية عميقة، عنوانها: إهدار معنى سيادة القانون، ضعف الأداء السياسي لمؤسسات الدولة وتبديد هيبتها، ضمور الثقافة الوطنية.
هذه الظواهر المُقلقة تمس، بصورة مباشرة وحساسة، وتر العلاقة بين الفرد والدولة والمجتمع، وتقتضي، كما هي الحال الطبيعية، أن تستنفر الدولة مؤسساتها السياسية ومطابخ التفكير الاستراتيجي للبحث عن الأسباب والجذور والحلول الجذرية.
هنا، تحديداً، تبدو المشكلة أكبر، إذ أنّ مؤسسات الدولة السياسية نفسها أصابها الجمود والكسل. أمّا النخب السياسية فليست قادرة على العبور من الخلافات الشخصية والفئوية إلى التفكير بصورة جدية بمستقبل الدولة واللحظة العاصفة التي تمر بها.
لا تلتفت إلى مطابخ التفكير والبحث في الجامعات ومؤسسات التعليم العالي، التي يُفترض أن تمدّ هي الدولة بالتحليل والقراءة والسيناريوهات والخيارات، فهي معطّلة وغائبة عن الوعي، وما تزال تصارع أزماتها الذاتية، بعد سنوات من العبث والتخريب الذي طالها!
تتضافر مع الأزمة الاجتماعية والسياسية أزمة اقتصادية تتمثل بعجز كبير في الموازنة العامة، واستمرار الاعتماد على المساعدات الخارجية، وعدم القدرة على بناء رؤية استراتيجية توافقية للإصلاح الاقتصادي المطلوب، بأبعاده الاجتماعية والسياسية.
نعم، ايها السادة، واقعنا ليس بخير. ولم تعد المقارنة مع دول الجوار وتفضيل الأردن، سياسياً واقتصادياً وأمنياً عليها، مُجدية، لسبب رئيس أنّ تلك المقارنة إيجابية عندما يكون مسارنا إلى الأمام أو على الأقل ثابتاً، لكننا نسير إلى الوراء بتسارع مرعب، يعيد طرح أسئلة الدولة والمواطنة وسيادة القانون بعد قرابة تسعين عاماً على تأسيس الإمارة!
المفارقة أنّ الأردن كان، سابقاً، يمتاز بقطاع عام منضبط، متقدم، ريادي على مستوى المنطقة وبعيد عن شبهات الفساد، وبسيادة نسبية للقانون، فتحتوي الدولة العشائر والتيارات الاجتماعية، وتُخرّج النخب السياسية والإدارية، وتستقطبها من الأحزاب والمعارضة والبرلمان.
في اللحظة الراهنة، استحضار هذه القراءة مهم جدّاً، إذ يجري الحديث عن تغييرات وشيكة حكومية ورسمية، فثمة ضرورة ماسة ليس فقط لحكومة إنقاذ وطني، كما طالب النائب ممدوح العبادي، بل إلى جبهة سياسية عريضة للإنقاذ الوطني.
إلاّ إذا كانت الحكومة ستلجأ (كالعادة!) إلى الحل السحري في استشارة مؤسسات غربية، أو حتى عربية، لتقرأ مشكلاتنا المحلية، وتضع وصفات جاهزة، ما دمنا وصلنا إلى هذه الدرجة من الاستخفاف بالبلد وعقوله وخبراته!
عن الغد