"أردنيّو المهجر، الواهِبون بلا حدود"
عبد الحافظ الحوارات
03-06-2019 02:36 PM
ثمّ يأتيك أخيراً صوت قائد الطائرة بعد أكثر من عشرين ساعة تحليق في أجواء متباينة فوق البراري والبحار، مُعلناً استعداده للهبوط بأمانٍ على أرض المطار.
كنت أترقّبُ تلك اللحظة التي ستصلُ فيها طائرتنا إلى أوهايو، وأصبّرُ قدمَيَّ المُهتزّتين تصبيراً وهُمَا تُعبِّران عن امتعاضهما من الصفّ الطويل للركّاب الذين تكدّسوا وقوفاً أمامي في عنبر الطائرة، ينسكبون منها ببطء شديد نحو الخارج. كنتُ أَتَعَجّل تقديم ساعة إدراكي للواقع حتى أقتنع بِأنّي أُلامس حقّاً أرض كليفلاند؛ أشهر مدينة للعلم والطب في العالم يا أبي. جاء صوته يُحادثني عبر الهاتف من بعيد، كانت حروفه ترقص وهو يصف لي مشاعره، وكنت أستمع له وكأنّني أراه، أتلمّسُ قشعريرةَ جَسَدِه الماثلة أمامي رغم آلاف الأميال بيننا. لا غرابة، فالآباء يرون بآذانهم حينما يتحدث الأبناء البعيدين عن العيون.
نادرون، أولئك الكبار الذين يساعدون الصغار على ترجمة أحلامهم إلى حقائق دون أيّ مقابل، متجاوزين عُقَد الهويّات وضيق النَّعرات وجغرافيا التضاريس البائسة، يمدّون يد العون إلى كل طالب علم يحتاجها، يفرشون طريقك الشائك بابتسامات، ويدثّرونك بأغطيةِ كفوفهم البيضاء بياض قلوبهم. "الحجيري" رائدهم.
يُطلَقُ على نخبة الأدباء الذين هاجروا من الشام إلى الأمريكيّتين خلال النصف الثاني من القرن التاسع عشر اسم شعراء المهجر، لقد أسهموا في تطوير الشعر العربي. أستطيع أن أُطلق على نخبة الأطباء الأردنيين المبدعين المنتشرين في الأمريكيتين ممّن برعوا في الطب في عصرنا الحالي اسم "أطباء المهجر"، هؤلاء وهبوا للوطن باقات عظيمة من المغانم؛ ذلك وإن كانتْ أجسادهم بعيدة هناك، بَيْدَ أنّ أرواحهم تَنْصِبُ جسوراً وثيقة مع جذورهم الأصيلة هنا لِيَعبر عليها كلُّ طَموحٍ ومُحتاج.
الدكتور محمد الحجيري أستاذ القلب في كلية الطب بجامعة أوهايو، ورئيس قسم كهرباء القلب في "أوهايو هيلث" وفي مستشفى "مانسفيلد"، يدخل قلوب الأصحّاء ممّن يقابلهم مثلما يدخل قلوب مرضاه بلا استئذانٍ، إنّه في طليعة الذين أتحدّث عنهم اليوم. يستقبلُ كلَّ شهر ويودّع دُفعةً من شباب الأردن على مدار مواسم العام؛ زبائنهُ طَلَبةٌ طامحين يختارهم بعناية من المتفوقين ممّن هم على عتبات التخرّج من كلّيات الطب في جامعاتنا الأردنية. يوجّه لهم دعواتٍ رسميّة تمكّنهم من دخول بلاد الأحلام، وينتظرهم هناك ببرنامج تدريبي فاعل، ليتعلّمون منه ومعه ما يَتَميّزون به لاحقاً في هذه المهنة الإنسانيّة؛ يمنحهم فرصة التدريب بالمستشفيات الأمريكية وتحت رعايته الكاملة، يمنحهم بلا حدود ودونما أيّ مقابل، فيتحصّل كل واحدٍ منهم على خبرة ورسائل تزكية هما خير مُعينٍ للطالب؛ تُسندهُ وتؤصّل من فرصته للالتحاق ببرامج الاختصاص الطبي الأمريكي التي لا يختلف اثنان على أنّها أعرق أنظمة التعليم الطبي في العالم. قليلون هم من كانوا في مثل موقعِهِ وخبراته وانشغالاته، ويتذكّرون أبناء الوطن.
جاء صوته مرّة أخرى:
أنا الآن خارج المطار يا أبي، والوقت ساعة بعد منتصف الليل، لا تقلق فقد استعنتُ بتطبيق "أوبر" عبر هاتفي، وخلال دقيقتين وصلتني سيارة. في مقعدها الخلفي ألقيتُ بجسدي الغضّ جوار حقيبتي المتواضعة، ثمّ انطلقنا إلى عنوان إقامتي الذي لقّمْتهُ مُسبقاً للهاتف. لم يزعجني سائق السيارة بحديثٍ يعتقد أنّه مُشوّق حول يومياته الغريبة في شوارع العاصمة، ولا أدخلني عنوة في عوالم زيجاتهِ العديدة والطلاقات، لم يمتعض من أحوال البلد الاقتصادية كما وأنّني لم أضطرّ لمُسايرتهِ بِهزّ رأسي موافقاً على تحليلاته البلهاء لثورات الربيع أو لاستراتيجيات قمعها في أرجاء عالمنا العربي.
أوصلني إلى مدينةٍ أُسّسَتْ عام 1808م، تقَعُ في منتصف المسافة بين مدِينَتَي كولومبوس وكليفلاند وقد أخذتْ اسمها من اسم العقيد "جاريد مانسفيلد". كان سَكَناً مُخصّصاً للوفود الطلابيّة في حيّ هادئ بالمدينة، لم تستطع العجوز التي تملك النُّزُل أن تبقى مستيقظة بانتظاري إلى ما بعد منتصف الليل، لا حاجة لي بها طالما وُجِدَ أردنيون يفتحون لك الباب مثلما يفتحون لك قلوبهم البيضاء.
ألقيتُ بِجَسَدي المُتعب على سرير نظيف، وتحت الغطاء اجتاحتني رعشة سعادة جعلتني أفرك مقدّمات قدَمَيَّ ببعضها البعض قبل أنْ يزفر أنفاسه الدافئة في أذنيَّ رقادٌ ثقيل.
ستُ ساعاتٍ من النوم كانت كافية لأنهض بعدها بكامل حيويتي وقيافتي. يوم الاثنين هو بداية الأسبوع الذي يبدأ معه العمل والإنتاج حسب تقاويم هذا المجتمع "البراغماتي"، قرّرتُ أنْ أقطع مسافة المِيلَيْن من النُّزُلِ إلى موقع التدريب مَشْياً على الأقدام لأستطلع كل ما كان حولي. نسائم منعشة سرتْ في جسدي وأنا أختلس النظر إلى هذا العالم الجديد، أقفز في الطريق قفزاً، يغرق ظلّي تارة في ظلال الأشجار الضخمة التي تترامى على جوانب الطريق حينما تمدُّ رؤوسها باتجاهي لتستطلع وطيورها هذا الغريب، ثمّ يعود يتبختر معي حينما تنحسر الأشجار فتكشفني لقرص الشمس.
بالكاد كنت أُقنع ساقَيَّ كي تهدآن أثناء المسير في ذاك الطريق المُبَرقَع بين ضَوء وظلّ. كنت أشْكُمُ اندفاعهما حتى لا تُثيران شُبهات المارّة حول هذا البدويٍّ المغموس بملامحَ شرق أوسطيّة بارزة من أخمس قَدَمَيْهِ المُعَفَّرَتَين بغبار الوادي وصولاً إلى أعلى فتيلةٍ من كِشَّةِ شَعرِهِ المُلَولَب حتى عَبَرتا بي بأمان بهو المستشفى العام في "مانسفيلد". ألقيتُ التحيّة على كل من كنت أواجهه في طريقي إلى مكتب سكرتيرة البروفيسور حجيري التي رحّبتْ بي على الفور، وقبل أن أستطرد معها بالحديث ناولتني في يميني جدولَ عملي المزدحم طيلة الأسابيع الأربعة التي سأقضيها هنا.
في بلاد الفِرِنْجَة يا أبي لا يوجد وقتٌ للعَبَث؛ نصف ساعة وإذ بي وجهاً لوجه أمام العالِمِ الكبير والقامة السامقة، الدكتور محمد الحجيري، الذي احتضنني بسلام أردنيّ دافئ ومميّز تُكلِّله ابتسامة مُحفّزة، انطلقنا بعدها مباشرة إلى العمل نجوب عنابر المرضى، وأنهل من عِلمِهِ الوازن وعِلم أولئك القوم الرائعين.
لماذا يختار بعض الناس أن يفعلوا الخير؟ ما أصدق الإجابات حينما تأتي من الأمّهات! ففي إحدى حلقات البرنامج التلفازي الشهير "مغتربون" التي كان الدكتور الحجيري محورها، أجابتْ والدته عمّا جال في خاطري: " كان محمّد ومنذ صغره مجبولاً على حب الخير ومساعدة الآخرين، يعطي كلَّ ما عنده بصدق وتواضع"
كان ذلك في صِغَرِهِ. أمّا في ذَروة شبابه اليوم، فيعمل الدكتور محمد على مشروع "إدراك" الطبي لإنتاج أضخم موسوعة طبيّة معرفية، مثلما سجّل قبلها براءات اختراع أعادتْ للقلوب بهجتها ونبضها الصحيح، ويتصدّقُ بعِلمِهِ الفائض على المئات من طلبة العلم في وطنه الأصلي "الأردن" من خلال تشبيكهم بأرقى المؤسسات الطبيّة في بلاد المهجر. لِيُثبت للجميع أنّ الأنقياء الصالحين هُم كالحَمَامِ الزَّاجل المُتعلّق بشدّةٍ في وطنه؛ فمهما سافر أو بَعُدتْ عليه الشّقّة، لم ينسَ عشّهُ الأصلي.
أُحَيِّيكَ يا حجيري لأنّك الكبير الذي يُميط الحجارة عن دروب أبنائنا الصغار، لأنّك النبيل الذي يتسامى فوق عُقَد النّقصِ التي تنتاب بعضَ كبار النَّاجحين حينما يتشرنقون حول ذواتهم كُتَلاً تُعيقُ اندفاع الطامحين لاقتفاء آثار الفائقين. سوف يُثمر عملك يا بروفيسور، وسوف يتأثّر جُلّ القادمين إليك بمنهجك الخفيّ الرائع في العطاء المقرون بالإبداع؛ فيما سنلهج نحن الآباء بالدعاء لك ونحن مطمئنّون إلى توالد الخير واتساعه، وتكاثر الخيّرين في نطاق شامل يكفي لمعادلة كفّة الميزان، كي لا يبقى هذا العالم مائلاً.