إنتبه .. فالمتسوق الخفي يراقبك !
المهندس عادل بصبوص
02-06-2019 09:58 PM
إنشغلت الكثير من الاوساط ووسائل الإعلام والمهتمين بالشأن العام خلال الفترة الماضية وما زالت منشغلة، بموضوع "المتسوق الخفي" وهو مصطلح بدا للكثيرين جديدا وغير مألوف، وقد طفت القضية على السطح وغدت حديث الساعة عندما قام رئيس الوزراء د. عمر الرزاز الشهر الماضي بزيارة مفاجئة لمديرية تسجيل أراضي غرب عمان لمتابعة النتائج السلبية التي تضمنها تقرير المتسوق الخفي عن زياراته السرية لهذه المديرية، وقد قام رئيس الوزراء في خطوة استهجنها كثيرون بتوجيه النقد العلني لموظفي المديرية معبراً عن عدم رضاه عن مستوى الخدمات المقدمة للمواطنين وتوعدهم بإتخاذ الإجراءات العقابية اللازمة في حال عدم معالجة أوجه النقص والقصور خلال مدة شهر قائلا " أعذر من أنذر".
المتسوق الخفي هو أداة تستعملها الشركات أو المؤسسات بشكل عام لقياس جودة الخدمات المقدمة للفئات المستهدفة أو لتحديد مدى الالتزام بالتعليمات المحددة في تقديم هذه الخدمات، وذلك من خلال تقارير سرية يعدها أشخاص يقومون بزيارة مواقع تقديم هذه الخدمات تتضمن ملاحظاتهم وانطباعاتهم عن العديد من العناصر المرتبطة بتقديم الخدمة أهمها مدى قدرة العاملين على تقديم الخدمات المطلوبة حسب المواصفات، ومدى توفر كافة المتطلبات اللازمة لتقديم حيث تستعمل مخرجات هذه التقارير في تطوير الأداء وتحسين مستوى ونوعية الخدمات المقدمة، وهناك وسائل وأدوات أخرى قد تلجأ لها المؤسسات لتحقيق هذا الغرض منها مسوحات رضا متلقي الخدمة ومنصات تلقي الاقتراحات والشكاوي وغيرها.
خلافا للانطباع الذي تكون مؤخرا لدى الكثيرين فموضوع المتسوق الخفي ليست إضافة لمنهجيات تقييم الأداء انفردت بها حكومة الرزاز فهذا الاسلوب مستعمل منذ أكثر من خمسة عشر عاماً من قبل مركز الملك عبد الله الثاني للتميز كأحد عناصر التقييم التي تتضمنها جائزة الملك عبد الله الثاني لتميز الأداء الحكومي والشفافية، وقد دأب المتسوق الخفي خلال تلك السنوات على زيارة الوزارات والمؤسسات المشاركة في الجائزة وإعداد تقارير التقييم التي كانت تستخدم في تحديد العلامة التي تحصل عليها المؤسسات المشاركة في الجائزة، حيث كانت حصة تقارير المتسوق الخفي في تحديد هذه العلامة تبلغ (10-15%) فقط ذلك لأن هذه التقارير تقيس جزئية واحدة فقط من مجمل الأداء العام للمؤسسة أو الوزارة، تتعلق بالخدمات المقدمة للجمهور، في حين أن جل علامة التقييم (85-90%) تذهب الى جوانب أخرى لا علاقة للمتسوق الخفي بها تتعلق بتحقيق نتائج وأهداف المؤسسة وسلامة وتطبيق منهجيات العمل المستخدمة فيها ورضا الموظفين، فتقارير المتسوق الخفي ليست المعيار الحاسم في تحديد مدى تميز المؤسسة أو الوزارة، لذا ليس من المستغرب حصول مؤسسة أو وزارة ما على علامة مقبولة أو متوسطة على تقرير المتسوق الخفي في حين تأتي العلامة الإجمالية لتلك المؤسسة في الجائزة منخفضة أو حتى متدنية.
المتسوق الخفي ليست مبادرة حكومية كما أسلفنا، فهي دراسة تتم من قبل مركز الملك عبد الله الثاني للتميز من خلال طرف ثالث من القطاع الخاص يتم التعاقد معه من خلال مناقصة عامة يجريها المركز وهو جهة مستقلة وغير حكومية، أما لماذا يتم إجراء المسح أو الدراسة من قبل القطاع الخاص فالسبب في ذلك يعود إلى رغبة المركز في تحقيق درجة عالية من الكفاءة والفاعلية في إجراء الدراسة وإلى ضمان درجة عالية من الحيادية إضافة الى إن الدراسة تحتاج الى عدد كبير نسبياً من الباحثين لا يتوفر لدى المركز.
لقد أثارت زيارة رئيس الوزراء إلى مديرية تسجيل أراضي غرب عمان والاعلان عن موضوع المتسوق الخفي الكثير من اللغط والانتقاد كما طرحت العديد من الأسئلة والاستفسارات، فالكثيرون استهجنوا قيام الرئيس بانتقاد اداء الموظفين علنا، في حين رآى آخرون أن القطاع العام بمجمله مترهل قليل الانتاجية، ويحتاج إلى أساليب جديدة للتعامل معه لعل بعضها "العلاج بالصدمة"، إضافة إلى أن كثيراً من المنتقدين لم يكن دافعهم الأكبر المحافظة على مشاعر موظفي القطاع العام من الخدش أو العطب بقدر رغبتهم الملحة في انتقاد الرئيس، فمعظم الناقدين لم نسمع لهم صوتا عندما تغولت النقابات المهنية على الحكومة وأرغمتها على التراجع عن منهجية تقييم موظفي الحكومة وفقا لمنحنى التوزيع الطبيعي والتي كان من الممكن أن تكون خطوة اصلاحية هامة على طريق إصلاح القطاع العام، أما من رأى في استخدام المتسوق الخفي في تقييم الاداء اعتداء على المؤسسات الرقابية المتعددة، واقرار بفشلها في تنفيذ المهام التي وجدت من أجلها، فذلك سببه عدم المعرفة بأن المتسوق الخفي هو جزء من منهجية التقييم التي تتبعها جائزة الملك عبد الله الثاني للتميز والتي تصدر توصيات للتطوير والتحديث غير ملزمة منذ أكثر من خمسة عشر عاما، وقد دأبت الحكومات المتعاقبة على تجاهل هذه التوصيات، حتى جاءت هذه الحكومة ورئيسها بالتحديد محاولا الاستفادة من هذه التوصيات بجعلها ملزمة للجهات الحكومية المعنية ولا علاقة لذلك بالجهات الحكومية الرقابية ولا يعتبر انتقاصاً منها او من دورها، ولمن يتساءل عن الكلف الباهظة لمشروع أو دراسة أو مسح المتسوق الخفي فالكلف معقولة جداً وتقل كثيراً عن كلف العديد من مشاريع ومبادرات أخرى لم تترك أثراً يذكر على أرض الواقع.
ختاما نقول إن مبادرة رئيس الوزراء بمتابعة تقارير المتسوق الخفي قد أعادت الى الواجهة مجددا موضوع إصلاح القطاع العام وتطويره، وهي قضية كبرى وأولوية وطنية لا يحلها متسوق خفي أو معلن فالموضوع يحتاج الى ثورة بيضاء تشمل كافة القضايا والجوانب المتصلة بذلك بدءا من اختيار الموظف الكفوء والمؤهل بعدالة وشفافية، مرورا بالتقييم العلمي والعادل للاداء، وانتهاء بالتحفيز والمساءلة، ويمكن للحكومة في هذا السياق وقد اهتمت اخيرا بجزئية واحدة من مكونات جائزة الملك عبد الله الثاني للتميز وهي المتسوق الخفي، أن تتبنى كافة مخرجات وتوصيات الجائزة والتي تمثل مقاربة شاملة سوف تقود اذا ما أحسن استغلالها وتنفيذها الى خطوات جوهرية على طرق اصلاح القطاع العام، وحتى ذلك الحين نقول لموظف القطاع العام المعني بتقديم الخدمات المباشرة للمواطنين أن يحذر "فالمتسوق الخفي ..... يراقبك" مع الاعتذار من الروائي البريطاني جورج أورويل.