على الأقل، كان اثنان من أساتذتي في المرحلة الابتدائية يسافرون إلى مدرستنا على صهوة درّاجات ناريّة. كانت هيئتهم وادعةً ولا توحي أبداً "بالتَّشْبِيح"، بَيْدَ أنّ صوت محرك الدراجة كان يحمل وجهة نظر أخرى.
أفتانا أحد الطلاب الأكبر مِنّا سنّاً وحكمة حينما شاهدني وبعض الصغار نتحاور بشكل طفولي حول أسباب ذلك الضجيج الصادر عن مُحرّكها غير المتناسب أبداً مع كُتلتها، فقال:
ألا تعرفون إنّ محرّكها يعادل رُبع محرّك طيّارة؟؟؟
انبهرنا بتلك المعلومة ولا أعرف كيف تلبّستْ عقلي وتأبى أن تُغادِرَهُ، فبقيتُ أنظرُ إلى الدرّاجة حتى يومنا هذا نظرة مَلْأى بالمهابة والوقار نابِعَة من مقولة ذاك الطالب الحكيم التي غرسها في جُوّانياتي:
إنّها "رُبع طَيَّارة"، لا بل ويزداد احترامي لها لأنها تواضعتْ وَقَبِلَتْ أنْ تَمْشي على الأرض.
أميل ولو من باب التفاؤل إلى إلغاء الحديث عن النكسات المحلّية والعربية، فاللطم والندب والمرثيّات قد أضفتْ سوداويّة تكفينا لأجيال، وحُجّة القراءة الواعية للتاريخ ستزيدنا مَنْخوليّة وتخور معها بقايا قوانا. أريد أن نتحدّث عن الانتصارات التي تجعلني أنظر إلى الدرّاجة على أنها ليست محض دراجة، لا بل هي ربع طيّارة.
في ذكرى النكسة التي أمستْ نكسات، غَيّبَ الموت العام الماضي "أحمد سعيد" مُذيع البيانات المُفَبْرَكة للسلم النفسي والنصر المُزوّر في حرب النكسة، فَهَلّا غَيّبنا نحن ذكراها عن منظور أطفالنا. لا نريد لائحة سنويّة تُذكّروننا فيها بعدد الطيّارات التي حَصَدتْ إسرائيل سنابلها في حقولنا قبل أن تتسنبل، بل ذكّرونا بمذبحة الدبابات التي راحتْ ضحيّتها 500 دبابة إسرائيلية أعطبها أبطال مصر في أكتوبر. ذكّرونا ب 88 آلية عسكرية دمّرها جيشنا الأردني البطل مع شقيقته المقاومة، ولا بأس من التعريج على ثلاثة أضعاف هذا العدد من قتلى الجيش المعتدي. ذكّرونا بصدمة العدو الذي كان يطمح لإرسال الفرقة الموسيقية التابعة لجيشِهِ إلى الجبهة قبل الفِرَق المُقاتلة، في نُزهة تحوّلتْ عندهُ إلى كابوس.
ابحثوا لنا عن متحف يَعرضُ سِوارَي كِسرى عظيم الفُرس محفوفتان بهيبة ابن الخطاب والمُدلجي. ذكّرونا بالاثنتين والعشرين مرّة التي انتصرنا بها على الروم ما بين جاهلية وإسلام. هذا مع إدراكنا بأن الحياة المُنتجة هي كالبناء الذي يقوم على أربعٍ ومن المجحف اختزالها بين جدارين من الهزيمة أو الانتصار، لا بل أنّ هناك أقواماً يفضّلون حياة بلا جدران.
كفانا نكسات واجترار ذكريات موجعة، اعطونا رُبْع الطيّارة، وهالات فَرَح.