استفاقت من غيبوبةٍ ألمّت في جسدها بعد يومٍ طويل ومرهق؛ كان نورُ الفجر المشبعِ بالضّباب يتسلّلُ مع برودة لاسعة. وهدوءٌ صارخٌ عّم المكان؛ الكلُّ نيام حتى العصافير والغربان وطيرُ الدّوري الزقزاق الذي اعتادت سماع تغريده في سِلسلةٍ من “الزَّقزقات” القصيرة يُطلقها أحيانًا مُتداخلةً في نظمٍ سريع.
انهمكت في صنع قهوتها؛ وأدارتْ التلفاز. تنقلت بين المحطات حتى استقرت على غير وعي على فضائية بلدها التي لا تبذل أي مجهود للتماشي مع التكنولوجيا. إنه موعد نشرة الأخبار؛ مجلس النواب يشغل الحيّز الأكبر من الأخبار، ولكن هناك خبرٌ عابر حول امرأةٍ قُتلت في شارعٍ مشهور في عمّان، وتحقيقٌ ضئيل حول ضبط بعض الأطعمة غير الصالحة للاستهلاك الآدمي... استشهاد شاب من غزة..فتاوى من مؤمن متبجح.. تلا النشرة برنامج أهمية الوقت ومركزية دوره في حياة البشر.. واعرف أسرار نفسك من تاريخ ميلادك...صورةٌ باهتة لعاشقين يجلسان على مقعدٍ في حديقة؛ تخللتها أغنيةٌ فيروزيةٌ مخملية .
أغلقت التلفاز بعد المشاهدات غير المتزنة تلك، حدّقت في صورتها في المرآة. تأملت ملامحها الأربعينية باستغراب وكأنها ترى نفسها للمرة الاولى:
لا أعرف أي جزء من هذا الكوكب الشاسع سيكون وطنا لي أو لأبنائي غدا. كل ما أعرفه أن "فلان" تزوج "ابنة فلان" وأنجبا أبناء، ومن صلب الأبناء ولد الأحفاد، ومشى كل منهم في طريقه يبحث عن وطن!
ولا أعرف الكثير عن السياسة ولست مهتمة بها. سوى أن "عمّان في القلب" وفلسطين حقّ لكنه "ليس براجع لذويه إلا بالحراب" . السياسة لها ناسها من المتزلفين والمنافقين والمتفذلكين، وأنا لست منهم.
لا أعرف اتجاه القبلة في بيتي، ولا أشعر بضيق أو حرج إن سألني أحد ضيوفي عنها وأجبت ب( ما جدوى تحديد الإتجاه إذا كان الله موجود في كل الإتجاهات!.. صلِّ وين ما كان وربك والله رب قلوب)!
تتزاحم في مخيلتي وجوه ومواعيد كثيرة، تخلفت عنها أو تأخرت. صراحة، لا أعرف بل لا أستطيع ادعاء الإلتزام بالوقت. كل ما أعرفه أنني أعشق الساعات، وفي نهاية حياتي سأشتري قبراً وساعة.
لا أعرف من هو ذلك الأحمق الذي أشاع سخيف الإعتقاد إن تاريخ ميلادك هو ذلك التاريخ الذي دونه موظف يكره الأرقام مُذ كان طالبا في مدرسة تعلم الحساب بالعصا! تاريخ ميلادك الحقيقي، هو ذلك التاريخ الذي حملت لك فيه النوارس أغنية حب هربت من قصائد الخذلان وباقة ورد أحلى من عودة نيسان...وأنين قلب ورعشة نغم، وهزة ساق ودفق لسانٍ ريقه اللهفة، وألق روح لا يخبو مثل موعد في المطر، وإسراف في الشوق معلق على خاصرة نص.
فتحت خزانتها، تناولت ثوباً أبيض، ارتدته وهمت بالخروج. قبل أن تغادر ، عادت للمرآة، حملت لها الريح صوتاً من بعيد: “لا تفكري، فالتفكير في جواهر الأمور هو الخطأ بعينه! مرآتك لم تخطئ فهي لم تفكر! إن أخبرتك أنك جميلة فأنت كذلك، وإن أخبرتك العكس فأنت كما أخبرتك به".
ابتسمت للمرآة وغادرت!