من قال ان الخيمة للجوء فقط ؟ ومن قال ان اللاجئين ينسون بلادهم ؟ انهم في حياتهم المؤقتة، في اماكنهم المؤقتة، يبنون الانسان الذي طرد من وطنه، يسكنون المدن والفلل والقصور لكن تظل الخيمة تسكنهم، ينامون على خيش الغربة و يظلون يحلمون بريش الوطن.
أحدهم، في كل رمضان ياتي من ديترويت – متشيغان حيث يقيم منذ سنين، ينصب خيمتين كبيرتين، يستضيف مائتي عائلة عفيفة كل اثنين وخميس على الافطار، طعام بنكهة الامهات تطبخه نساء متبرعات، وجبة وصحن سلطة وآخر لبن في أطباق بيضاء مغطاة، وبعد الافطار هدايا مغلفة للاطفال.
دعاني ذات افطار فذهبت وفي ذهني صورة غير تلك التي رأيتها، طاولات وكراسي بلاستيك مرتبة، نساء وأطفال، تلك أرملة وتلك مطلقة وتلك زوجها في السجن لعدم قدرته على سداد ديونه. في جانب من الخيمة تفوح منها رائحة الطعام، أربع نساء، احداهن شقيقته، يملأن الأطباق من قدر واسع بالرز المبهر بالعصفر والزعفران، وقدر آخر ممتلىء بقطع الدجاج المحمر.
سبعة شباب وفتيات متطوعين لعمل الخير يوزعون الاطباق واكواب الماء والتمر على الحضور، وما ان يؤذن المغرب حتى ترى الكل عائلة واحدة جمعهم عمل الخير على مائدة واحدة.
كان خالد يدور على «ضيوفه»، كما يسميهم، ليطمئن على الطعام ان نقص ينادي على احد الشباب ليزيده، وكانت ابتسامة الرضى عن النفس تنير وجهه، وكنت انا أراقب المشهد بفرح عميق، عمق المسافة بين ما كنا وما اصبحنا عليه، نحن أبناء مخيم الزرقاء، مدينة العسكر واللاجئين والتجار الصغار، انصهروا كلهم في بوتقة واحدة، مسلمين ومسيحيين، اردنيين و فلسطينيين وشركس وشيشان وأرمن.. تصاهروا وتناسبوا وكونوا عائلة قوامها العمل والعلم وشعارها المحبة، وعمل الخير بالنسبة لخالد لا ينتهي بانتهاء رمضان فهو يتكفل بمساعدات مادية شهرية لـ 1500 عائلة مستورة.
خالد كان زميلي في المرحلة الاعدادية بمدرسة الوكالة «الأونروا» الواقعة بين المخيم والمعسكر. لم تكن شوارع المخيم مسفلتة، في الشتاء طين يصل الركبتين وفي الصيف حرارة لا يقيها حذاء خفيف أو ما تبقى منه. المدرسون آباء حقيقيون، والآباء كادحون، ممنوع عليك ان ترسب فأنت رصيدهم ومستقبلهم بعدما احتل الصهاينة مدنهم و قراهم وبحرهم و بياراتهم، أما الأمهات فكن المربيات القاسيات اللواتي يخفين جرح اللجوء بشاشة بيضاء على الراس وببشاشة لا تفارقهن الا حين يهمل ابن دراسته أو يحيد عن الطريق.
بعد أربعين سنة من المدرسة، واتحدث عن الفترة بين النكبة 1948 و النكسة 1967، التقيت خالد عبر الفيسبوك، ذكرني به وبالمخيم ومدرسة الوكالة وبزملاء آخرين. اجتمعنا انا وهو وزميل آخر كان قريبا منا درس الطب في ايطاليا وفتح عيادة على بوابة المخيم، في مكتبه المقابل للخيمة الرمضانية والواقع في بناية كبيرة. سألته كم يدفع ايجار المكتب ؟ ضحك وقال : هذه البناية لي وتلك التي على زاوية الشارع ايضاً لي. فوجئت وفرحت وقلت : ما شاء الله.قال : هل تذكر مخيطة أبوي الصغيرة التي ربانا منها ؟ قلت : نعم اتذكرها. قال : لقد اشتريت البناية التي كانت فيها والبناية المجاورة، ايضاً قلت ماشاء الله وازددت فرحاً.
خجلت ان أسأله كيف حدث ذلك، اقصد الثروة فبادرني بالقول : كنت أمارس تجارة استيراد وتصديرالملابس في الكويت، وبعد ما حصل للكويت عام 1990 عدت الى الزرقاء ومعي « شوية مصاري «، حاولت ان أواصل التجارة لكن فضلت الهجرة الى اميركا، وفي ديترويت واصلت تجارة استيراد وتصدير الملابس من الصين الى اميركا والى الاردن و السعودية، والحمد لله كبر الاولاد وساعدوني والآن تجارتي رابحة ولي عدة محلات في ديترويت واصبحت عضواً في الحزب الجمهوري.
كل هذا الحديث و نحن نجلس في مكتبه، القريب من المخيم، المخيم الذي منه انطلقنا الى ديترويت وايطاليا والكويت والامارات والسعودية والبحرين وكل بقاع الارض.
وللمتحمسين لصفقة القرن نقول: الفلسطينيون لا يريدون المال ولا التوطين انهم يريدون شيئاً واحداً..فلسطين !
- بالتزامن مع «البيان»
الدستور