العبور من ثقافة "الشتيمة" إلى ثقافة "النقد"
د.عبدالحكيم الحسبان
28-05-2019 05:47 PM
في وطني بات الفضاء مليئا بالشتائم والتهم. وبات الجميع تقريبا يتهم بل ويحاكم الجميع. مواطنون يتهمون مسئولين في أعلى السلم الإداري وفي أدناه، ويخوضون بل ويستبيحون كل ما ينتمي لحياة المسئول غير مدركين لما هو "عام" قابل للنقد في شخصه ولما هو 'خاص" يحرم الاقتراب منه. وهم إذ يشتمون يعتقدون أنهم يمارسون نقدا.
وفي بلادي بات المسئولون ومن هم من علية القوم يشعرون أن ما يوجه إليهم من مواطنيهم هو سيل من الشتائم والسباب وأن هذا السيل من الكلام الجارح لا علاقة له البتة بالنقد. وفي النفس العميقة لهؤلاء ثمة شعور بالندم والخذلان للحال الحزين الذي آل إليه الموقع العمومي، وآل إليه حال شاغله بعد أن بات الموقع أو المنصب العام لا
بحمل لشاغله ذلك القدر من الاحترام والهيبة الذي كان يحمله ذات يوم.
والحال، أن المعادلة باتت الآن كالتالي، مواطن يمارس الشتم ويستبيح المناطق والمساحات المحرمة في شخص المسئول معتقدا أنه يمارس النقد بنفس الكيفية التي يمارس بها الفرنسي أو البريطاني نقده لمسئولي بلاده، ومسئول بات يشعر أنه لا يتعرض للنقد بل يشعر أنه يتعرض للشتم والتشهير، وحتى في الحالات التي يتعرض المسئول فيها للنقد الحقيقي بات يصرخ متذاكيا أنه يتعرض للشتيمة وليس النقد.
ومما فاقم من حجم المشكلة وخطورتها هو تطور التقنيات الاتصالية والتواصلية. فقد بات بامكان أي شخص ان ينتج مادة سمعية او بصرية او مكتوبة وينشرها في دقائق لتصل الى ملايين البشر. ولم تعد التقنيات الحديثة تسمح بالسيطرة والتحكم في مضمون المادة السمعية والبصرية والمكتوبة وحجمها ووجهتها.
في الفارق ما بين الشتيمة والنقد لا يمكن الحديث عن شعرة، تجعل اختلاط المفهومين والممارستين أمرا مبررا، بل إن الحديث هنا هو عن برزخ تسهل رؤيته إذا توافرت شروط معينة. وبكلمات اخرى فان ما يجعل البرزخ يبدو وكأنه شعرة لا ترى، ما يسهل الشطط ويخلط الشتيمة بالنقد والنقد بالشتيمة هو نسق ثقافي واجتماعي ومعرفي تربينا عليه وعشنا في ظله.
النقد هو ممارسة راقية وايجابية وبناءة. وهي جزء من ذلك التراث المعرفي والثقافي الذي أنجزه الانسان على مدى آلاف السنين ويحق للإنسان أن يفاخر به. العقل النقدي هو العقل الذي بنى العلم والتقنية وبنى الدولة والفنون والعمارة والمعرفة. والعقل النقدي هو الذي مكن الانسان أن ينقد معرفة ونظما سائدة ليكشف عيوبها وثغراتها، فيصبح من المتاح بناء نظم أكثر اكتمالا ونضجا وموثوقية منها. العقل النقدي هو الذي يهدم ليبني، وهو العقل الذي حول بعض المجتمعات من مجتمعات تقليدية دائرية وتكرارية محافظة إلى مجتمعات حداثية متغيرة وتاريخية. وأجزم أنه لا يمكن فهم الاندفاعة التاريخية للغرب دون الحديث عن دور العقل النقدي الذي طوره الغرب في هذه الاندفاعة.
أما الشتيمة فهو ممارسة غرائزية وبدائية وهدامة. وهي النقيض المطلق للنقد رغم التداخل بينهما. الشتيمة هي ممارسة للعدوانية والسلبية والشر الكامن فينا، وهي لا تنتج ممارسة اكثر اكتمالا بقدر ما تكبت كل نوازع الخير والابداع فينا.
في التجربة التاريخية الغرب تطور إدراك الانسان لنفسه وتعريفه لنفسه. ففي الانسان الحديث الذي غدا كائن دولة، هناك مساحة خاصة تنتمي للفرد نفسه, ويقررها هو نفسه، ويختارها هو نفسه. هذه المساحة هي ما نسميه بحياتنا الخاصة؛ نوعية طعامي وملابسي ونمط تديني وحياتي العاطفية والعائلية، هي كلها تدخل ضمن الفضاء الخاص، وأنا من يقررها، ولا يمكن لأحد أن يحاكمها ويمسها. هذه مساحة مقدسة يحرم الاقتراب منها واستباحتها من قبل المجتمع ومن قبل الدولة. ولكن، وإلى جانب هذه المساحة في الإنسان، هناك مساحة عامة او عمومية, وهو تتعلق بنا باعتبارنا مواطنين أو كائنات دولة. فالضرائب التي علي أن أدفعها لقاء مواطنتي، والتزامي بالتشريعات والقوانين، وقيامي بواجباتي المجتمعية، والتزامي بعملي وشروط وظيفتي ومستوى إنتاجيتي، هذه كلها تدخل ضمن نطاق الفضاء العام. وهذه المساحة هي التي يمكن للمجتمع أو الدولة أن تحاكمها وتناقشها وتتهمها أن اقتضى الأمر.
وفي التجربة التاريخية للغرب يمكن فهم التطور الذي يشير اليه احد المثقفين الجزائريين الذي يرى في التاريخ الإنساني تطورا لثلاث مراحل. ففي المراحل الأولى للبشرية كان الإنسان يعبد ويقدس فيها الاشياء كالقمر والبحر والشمس والنار، وفي مرحلة ثانية بات الإنسان يقدس البشر كالفرعون والقديس والرسول، وحين تطورت بعض المجتمعات صارت تقدس الأفكار وصارت تنتمي وتتماهى مع الأفكار وتتبعها ولا تتبع الأشخاص، وهي وان تبعت شخصا فلأنه يحمل فكرة معينة وليس لصفاته الشخصية. في الغرب يبدو الصراع الاجتماعي والسياسي يتعلق بصراع أفكار وإيديولوجيات أكثر منه صراع أشخاص وطوائف.
وفي التجربة التاريخية للبشرية اقتضت الدولة والسياسة أن يكون هناك مواطنون Citizens وأن يكون هناك public servants أي خدم عموميون. من يتولى الوزارة او النيابة يتحول حتما إلى شخصية عامة والى خادم عمومي. وتقتضي طبيعة عمله ان يتخذ القرارات، وأن يقوم ببعض الممارسات التي تتعلق بإدارة أمور الناس. وفي هذه الحال تصبح هناك مساحة داخل هذا الشخص قابلة للنقد والمحاكمة. وعلى كل من يقوم بشغل موقع عمومي أن يدرك أنه وفي اللحظة التي اختار فيها أن يتولى موقعا عاما، فانه يكون قد وسع في شخصه من حجم المساحة القابلة للنقد والمحاكمة من قبل الناس. وعليه فانه يصبح من حق المواطنين الذين هم شركاء في الوطن أن يمارسوا النقد لتلك المساحة العامة أي المتعلقة بالسياسات والإجراءات والأفكار التي تطرحها هذه الشخصية، ولكن على الناس أن يدركوا أن هناك مساحة يحرم الاقتراب منها في شخص هذه الخادم العمومي. حياته الخاصة وعشيرته وطائفته ونمط تدينه ومأكله ومشربه هي كلها تنتمي للمحرمات التي لا يجب الاقتراب منها.
في ظل هذا التمميز بين "العام" و"الخاص" وفي ظل مستوى تطور المجتمع ودرجة تقديسه للفكرة وليس للشخص، يمكن لنا ان ندرك الفارق بين الشتيمة وبين النقد. فالنقد هو فكرة أطورها أنا مقابل فكرة سائدة، او مقابل فكرة جاء بها خصمي، والنقد هو ممارسة مثلى أقترحها أنا مقابل ممارسة خاطئة يقوم بها آخرون. في الثقافة النقدية تنتعش الافكار وتتنتعش محاكمة الافكار ليتخلص المجتمع من الفكرة السيئة ويستبدلها بأخرى أفضل. العقل النقدي يستبيح الافكار والممارسات السائدة ويحاول استبدالها بصورة دائمة بافكار وممارسات اكثر اكتمالا وعقلانية وعملياتية. فلا يمكن للمجتمع أن يتقدم دون هذا العقل النقدي.
أما الشتيمة فلا تنتمي للنقد أبدا. فهي تستبيح تلك المساحة الخاصة المحرمة فينا، وهي المساحة التي تنتمي الينا, والينا تحديدا, والتي لا علاقة للاخرين بها. فطريقة لباسي، ونمط طعامي، وهوية الطائفة الدينية واسم العشيرة التي اليها انتمي، هي كلها تدخل ضمن نطاق المساحة الخاصة او الفضاء الخاص، وأي مساس بها هو شتم وشتيمة وليس نقدا على الإطلاق. في المجتمعات الحديثة يكون النقد للممارسات والسياسات وليس للهويات. فالهويات لا علاقة لي غالبا بها، فانا ورثتها ولا يجوز محاكمتي بسببها. سنيتي او درزيتي أو مسيحيتي هي كلها هويات ورثتها وتنتمي للمساحة الخاصة التي يحرم الاقتراب منها، أما فكرتي التي أطرحها، واما ممارساتي التي أقوم بها على الارض، فهي التي ينبغي أن تكون موضع النقد والمناقشة والمحاكمة.
في بلادي ينشر الوزير سيرته الذاتية المليئة بالمهارات والمؤهلات التي اكتسبها وراكمها ودفع عرقا ودموعا ليحتصل عليها، على أمل أن يقنع الناس بشخصه، وباحقيته في شغل الموقع المرشح له، او الذي يشغله، ولكن الناس يأبون أن يقيموا المسئول من خلال سيرته الذاتية، بل يصرون أن يقيموه من خلال تلك المساحة الخاصة في شخصه. فهم لا يستطيعون مناقشة أوراقه العلمية التي كتبها بلغات مختلفة هم لا يتقنونها. ولأنه لا يد من محاكمة المسئول ولأننا لا نستطيع محاكمة أفكاره وبرامجه نقوم عوضا عن ذلك بمحاكمة شخصه وكل السمات والخصائص الشخصية التي ورثها؛ دينه وطائفته وعشيرته ومنطقته التي ينحدر منها.
يذهب الناس إلى صناديق الاقتراع لينتخبوا رئيسا لبلديه او نائبا لبرلمان. لا يناقشون كفاءة من ينتخبونه وقدرته ومهاراته. ولا يناقشون أفكاره واستراتيجياته ويحاكمونه على أساسها. مره أخرى هم ينتخبونه بالنظر إلى تلك المساحة الخاصة فيه. تدينه او طائفته او انتماء العشائري اي كل ما ورثه الشخص وليس كل ما راكمه من قدرات ومهارات تتعلق بالموقع الي سينتخب ليشغله.
في فرنسا يأنف الناس الخوض في الحياة الخاصة لزعمائهم. وترفض الصحافة الفرنسية مثلا أن تنشر خبرا عن علاقة غرامية خاصة بين وزير وممثلة سينمائية. فالصحافة تحترم تلك المساحة الخاصة الموجودة في كل فرد، وأما الفرنسيون فإنهم لا يهتمون بالحياة الخاصة للوزير وبنوع طعامه وبنمط ودرجة تدينه وحتى لو قامت الصحافة بالنشر فلن تجد هذا الاهتمام الكبير من القراء بالخبر، وحتى لو قرأ الناس الخبر فهو لن يؤثر في محاكمتهم للوزير أو خادمهم العمومي. فمحاكمة الوزير تكون محاكمة شرسة للأفكار التي يطرحها وللإجراءات التي قام او يقوم بها في إدارة القطاع الذي يتولى مسئولية ادارته، ويقررون على أساس هذا النقد انتخابه او إعادة انتخابه.
في بلادي الكثير الكثير الكثر من الشتم, وفي بلادي القليل القليل من النقد.