القدرة على فهم الواقع وتحليله مكون أساسي وضروري في شخصية الإنسان، وبغير ذلك نغرق في التفاهة والوصاية، وهذه ببساطة أزمة الإعلام والسياسة والثقافة، فبغير ارتقاء الإنسان بنفسه ستبقى المجتمعات والأفراد ضحية السلع والخدمات والسياسات والأفكار التافهة، فإذا كنا نتحدث عن العجز الثقافي والإعلامي والسياسي عن تلبية احتياجات الناس والارتقاء بها فإننا في الحقيقة نتحدث عن عجز الأفراد أنفسهم عن الحكم على الواقع وتحديد احتياجاتهم وأولوياتهم.
نحتاج أولا أن نرى الأشياء والأفكار كما هي، وتبدأ الكارثة عندما نعجز عن رؤية الأشياء وفهمها، تماما كمن يحسب الكاز ماء فيشربه، كيف نميز بين الصديق والعدو؟ كيف نقيس نضج الأفكار ومستواها؟ كيف نحكم على السلع والمنتجات والأفكار؟ تلك هي ملكة الحكم التي تنقذنا، والتي للأسف الشديد لا تمنحنا إياها بنضج وكفاية البيئة المحيطة بنا من التعليم ووسائل الإعلام والحياة اليومية والعمل والعلاقات، بل تزيدها لبسا.
يفترض أن الإنسان لديه ملكة ذاتية في رؤية الواقع والخبرة به، وكلما فسدت هذه الملكة أو ضمرت فسدت الحياة برمتها، فالبيوت والمهارات والأطعمة والسلع والعلوم والمعارف والتقنيات والانتخابات والسياسة والإدارة تتكيف مع قدرة الناس على الرؤية والتقييم، فتزداد السلع والخدمات والأعمال في مستواها وجمالها بمقدار فهم الناس أو تفاهتهم، لماذا يشغل تاجر أو مورد نفسه بتقديم أفضل السلع إذا كان الناس لا يميزون بين الفاسد والصالح منها؟ لماذا يشغل صاحب مطعم نفسه بنطافة مطعمه إذا كان الناس غير معنيين بالصحة والنظافة؟ لماذا يؤدي الوزير أو الموظف العام عمله على أكمل وجه إذا كان يستطيع ألا يفعل شيئا من دون أن يغضب أحدا أو يحاسبه أحد أو يعرف أحد ما الصواب والخطأ في عمله وما يجب أن يعمل وما لا يجب.
يستطيع شخص مجهول ونكرة أن يدعو أغلب رجال السياسة والإعلام في الدولة والمجتمع على عشاء تموله شركة ولا يستطيع هؤلاء النخب والقادة أن يجتمعوا في مؤتمر أو لقاء للتشاور والحوار إلا إذا أنعمت علينا العناية الإلهية بشركة ومجهول يدعو الناس للحوار والتفكير، أليست المسألة متعلقة في مَلَكة الحكم والتقدير؟
الناس معظمهم فقدوا مقدرة رؤية الأشياء والأفكار إلا كما توصف أو تسوق، والواقع أنه مرض خطير يحتاج إلى علاج وتأهيل، فكما يحتاج الأطفال مثلا لمعرفة خطورة النار والكهرباء لحمايتهم تحتاج المجتمعات لتدرك الغث والسمين والفاسد والصالح والجميل والقبيح، ولشديد الأسف فإن الحكومات والشركات ليس لها مصلحة في ذلك، وفي علم النفس فإن هذه الحالة هي اضطراب عقلي تسمى "ذهان" ولكنها عندما تتحول إلى وباء شائع تصبح اجتماعيا هي الأصل والصواب، وهكذا نقع في مشكلة مركبة ومعقدة عندما يصبح الارتقاء بالنفس استثناء او انحرافا يتعرض للمقاومة والاضطهاد.