ملاحظة : أرجو المعذرة من كل من يقرأ هذا المقال إن بدت مشاعري غريبة بعض الشيء , فانا أعيش في جدة منذ سبع سنوات حيث لا يوجد إلا فصل واحد هو الصيف وحره ورطوبته .أريد أن أصارحكم بأمر مهم , يبدو أنني من هواة الشنططة والبحث عن المتاعب . اكتب هذا الموضوع في الساعة الثانية بعد منتصف الليل بعد أن كنت مستلقيا على فراشي الوثير الناعم أحاول الخلود إلى النوم وطرد وساوس الحياة ومتاعبها من رأسي , ولكن النوم لم يعرف إلى عيني سبيلا وأقض مضجعي صوت المكيف اللعين ينخر دماغي نخرا ويبث في رئتي هواء مصطنعا فاسدا , لعنت الرفاهية ويومها ثم عادت بي الخواطر إلى زمان ليس بالبعيد إلى الشتاء وحلاوته في الأردن فغادرت الفراش سريعا وبدأت كتابة هذه الكلمات .
سمعت أن هذه السنة كانت كثيرة المطر ونزل الثلج في عدة مناسبات , الخير كثير في الأردن ولا ينقطع عنه أبدا فهذا بلد مبارك وأهله طيبون فهم حتى في سنوات القحط والجدب يخرجون أجمل ما في نفوسهم من ألفة وتعاون وإيمان بقضاء الله وقدره . أحسدكم كثيرا حين تسمعون صوت قطرات المطر وطقطقة حبات البرد على شبابيككم .. تعود بي الذكريات إلى بيوت متواضعة البناء عظيمة السكان فأراهم ملتفين حول بعضهم يتجمعون حول مدفأة أو صوبة صغيرة , فيلتصقون وتتلامس أجسادهم وكأن هذا البرد والصقيع قد جاء ليبارك أرواحنا ويستخرج من نفوسنا معاني الألفة والمحبة والتعاضد قبل أن يكون مطرا يحيي أرضنا ويملأها بالخيرات .
للصوبات تغلغل عظيم في وجداني , فأنا بصراحة متناهية اعشق صوبات الفوجيكا ومدافيء علاء الدين وتعجبني كثيرا رائحة الكاز بل حتى استنشاق السنا المتصاعد من فتائل هذه الصوبات , لست فقرانيا ولا جاحدا لنعمة ربي ولكنني سأمت الأشياء المكتملة وزهقت الراحة فأنا لا أحب أن يأتي كل شيء إلي جاهزا على أكمل وجه , أريد أن أعود لإشعال الصوبة بيدي ولا أمانع أن أجد فتيلتها قد طال عليها الزمن وبدأت بالاحتراق الذاتي فأخرج تحت زخات المطر لاشتري فتيلة جديدة وأبدلها بيدي الخشنتين – في ذلك الوقت – فأصبح أنا نفسي مادة قابلة للاشتعال بعد أن ملأ الكاز يدي وتسرب إلى شيء من ملابسي . وأحب أن تعود والدتي لتفاجأني بأن الكاز قد نفذ من عندنا فأحمل ذلك الجالون الأزرق وأتوجه إلى اقرب كازية – حوالي 3 كم من بيتي – سيرا على الأقدام تحت زخات المطر أو جواعد الثلج لاقف في طابور يسبقني فيه خمسة عشر أو عشرون شخصا على الأقل وانتظر دوري بفارغ الصبر . كنت املأ ذلك الجالون ذا العشرين لترا بدينار واحد أما اليوم فالحال لايخفاكم ولعل ذلك الطابور الطويل أمام مضخة الكاز قد تلاشى فالناس لم يعودوا يطيقون شراء هذه السلعة .
للمشي تحت المطر رونق من نوع خاص لا يعرفه إلا من فقده وأضاع حلاوته , ووصول البلل إلى أصابع قدمي أمر محبب إلى نفسي فأنا إنسان يا سادتي ولست آلة تحتويها آلة أخرى مثل السيارة فتنتقلان معا ولا نعلم أي الآلتين هي التي تسير الأخرى , ودعوني أحدثكم بذكرى جميلة حصلت معي تحت المطر :
خرجت أنا وصديقي عمر – عمر هذا اربداوي أصيل من قرية اسمها علعال كان يتقن الغناء والعزف على الشبابة – أقول خرجنا من نادي أبناء الثورة العربية الكبرى الكائن قرب موقف كلية الحقوق في الجهة الشمالية للجامعة الأردنية , خرجنا متوجهين إلى شارع الجامعة الرئيسي كي نركب باصا يوصلنا إلى مجمع رغدان , كان الجو باردا جدا ولكن لم يكن هناك مطر أو شيء من هذا القبيل , فأكفهر الجو فجأة وبدأ نزول المطر مصحوبا بحبات من البرد لم اعرف طيلة حياتي مثيلا لحجمها وشدة سقوطها , كان الموقف عصيبا علينا جدا فلم يكن أمامنا خيار إلا الركض بأقصى سرعة باتجاه الشارع الرئيسي لعلنا نجد حافلة تنقذنا مما كنا فيه , ركضنا طبعا وقد أغلقنا أعيننا التي لم نقو على فتحها في ذلك الوضع فانتهى الموقف بعمر بأن ارتطم بشجرة مزروعة في الرصيف فانقلب على ظهره , أما أنا فقد تزحلقت بعده بأمتار قليلة وارتطم وجهي بالأرض وبقي مزرقا لعدة أيام , هل تصدقون انه انتابتنا حالة هستيرية من الضحك مباشرة بعد هذا الموقف .. ضحكنا وضحكنا وضحكنا .. وكأننا أردنا لا شعوريا أن نحرك عضلاتنا قبل أن يتسرب إليها الشلل أو لعل حبات البرد أعطتنا شيئا من نقائها فنسينا الدنيا وهمومها ورميناها وراء ظهورنا .
الشتاء قيمة كبيرة يا أعزائي , والمطر خير يمدنا به خالقنا لنقوى على الاستمرار في حياتنا , عندي فروة ما زلت محتفظا بها في خزانتي فهي تذكرني بجمال الدنيا وسحر الوجود حين يشتد المطر أو يكسو الثلج الأبيض الأرض , قاتل الله التكنولوجيا كم سلبتنا من معان جميلة فحولتنا إلى آلات صماء مستهلكة , نحن أصبحنا مأسورين لعجزنا وكسلنا .. فقدنا طعم الحياة واندرجنا تحت قائمة العدد الزائد .
سأرجع إلى شتائك يا أردن فقلبي لم يبعد عنك يوما وذكرياتي ما زالت تطوف بخاطري وتردني إلى رشدي كلما ابتعدت عن جادة الصواب .
آه يا أردن ما أجملك في كل أحوالك
samhm111@hotmail.com